على مدى أسبوع أو يزيد، أبدى “كيوي” خمولا في الحركة وانعزل جانبا، على غير عادته، في زاوية من “مسكنه” الذي تشارك فيه مع نزيلة اخرى، نكدت عليه حياته وضيقت عيشه.
ذات مساء، لاحظت أنه يكابد الزحف البطيء للوصول الى طعامه. أبلغت أطفالي بأن وضعه بات دقيقاً وأعربت عن قلقي بأن صاحبهم المدلل يستعد لمغادرة هذه الفانية. كان لملاحظتي وقع صاعق عليهم، فبادروا الى التشاور فيما بينهم بهدوء وقاموا بالاتصال بشقيقتهم الكبرى فحضرت على عجل واتجهت فورا نحو المكان الذي كان يرقد فيه.
أصيبت بالصدمة، لكنها تمالكت نفسها وأمسكت بجهاز الكمبيوتر، وشرعت في اجراء بحث مستعجل.
كانت الساعة تشير الى ما بعد منتصف الليل بقليل. عثرت على قسم الطوارئ الذي يمكن التوجه اليه، وأجرت الاتصال الهاتفي للتأكد من ساعات الدوام.
“نحن ذاهبون الى مدينة نوفاي” قالت بحزم، وسط دهشتي وإذ أدركت أنها مصرة على نقل المريض دون ابطاء، طلبت اليها التماسك وتوخي الانتباه في رحلة الطريق التي تستغرق نحو 40 دقيقة بين منزلنا في ديربورن وقسم الطوارئ في نوفاي.
أدركت ابنتي بصحبة زوجها وشقيقتها الصغرى وشقيقها، تلك العيادة، بسلامة وأبلغتني أن طاقم العناية استقبل المريض على الفور وشرع باجراءات الاسعاف الأولية، حيث تم وضعه في حاضنة وجرى انعاشه بالأوكسجين، بعد فحص أولي “لعلامات الحياة” أظهر أنه في حالة حرجة يتطلب الخروج منها سلسلة من الفحوصات والتحاليل والعلاجات.
عاودت الاتصال بابنتي للاطمئنان عنها بالدرجة الأولى، فأبلغتني بصوت ينضح بالأسى أن عليهم الاحتفاظ به “أوفر نايت” لمزيد من المراقبة، بعدما حقنوه بالمضادات الحيوية، وسألتها ماذا دهاه؟ فأجابت أنهم يقدرون أنه مصاب بما يتراوح بين الالتهابات الحادة والسرطان وبأن كلفة ابقائه في عيادة الطوارئ تبلغ خمسمئة دولار “فقط”، مقترحة علي بجدية تامة أن أتقاسم واياها المبلغ.
أبلغتها فورا عدم استعدادي لهذه الكلفة الطارئة علينا بعد منتصف الليل وبأن من الأفضل لها أن تعود به مع بعض الأدوية الموصوفة وبأقل كلفة ممكنة، وتسلم أمرها لله، باعتبار أن الأعمار بيده وحده، وبأن طاقم الطوارئ لم يقدم أي ضمانات بعودة العافية الى المحروس “كيوي” وبالتالي فان مغامرتنا غير محسوبة بينما ميزانيتنا محسوبة بالسنت!
اتكلت ابنتي على الله وعادت به الى المنزل على مضض، مع بيان “الافراج” من العيادة وقارورتين من الأدوية تحملان تعليمات الى جانب اسم المريض الذي حملوه اسم عائلتنا وفق المعلومات التي زودتهم بها ابنتي!
فور وصولها ابلغتنا بحزم بأن علينا الابتعاد عنه، لأنه في حالة ضيق جسدي ونفسي (سترسد آوت)، على حد تعبير من أشرفوا على حالته، وأوكلت الى شقيقها بأن يقصد فورا أحد المحلات المفتوحة 24/7 للعثور بأي ثمن على قفص لنقاهة “كيوي” الذي لم يعد قادرا على التعايش مع شريكه حياته النكدة “سكاي” في قفص واحد.
وإذ لم يعثر ابني على القفص المخصص للطيور، ارتأى بعد استشارة مندوب المبيعات في “ماير” أن يشتري له قفص “هامستر” وشرعوا جميعهم في تركيب القفص اللعين الذي أشرف على تصميمه خبراء في سيكولوجيا الفئران. تعرقنا ونحن نحاول جمع أجزاء القفص الجديد لـ”كيوي” وفرجها ربنا علينا قبل طلوع الفجر فحملناه الى منزله الجديد، ووضعناه فيه برفق، وثبتنا له طعاما وشرابا في مستوى أرض القفص، ولم تلبث ابنتي الكبرى أن أمرت باطفاء الأنوار واخلاء المنطقة لراحة المريض الذي اقتنته قبل نحو سنتين وأسست وأشقاؤها معه لعلاقة ود بات من الصعب انفصامها.
في اليوم التالي، تعثر “كيوي” أثناء زحفه ووقع في صُحين الماء المسطح فتبلل ريشه بقطرات من الماء أثارت الرعب في قلب ابنتي الكبرى التي أبدت رغبة فورية في نقله مجددا الى قسم الطوارئ، لكنها جوبهت برفض منا أقنعها بالعدول عن الفكرة، فسارعت الى مجفف الشعر وأدارته وشرعت في تجفيف الطائر الحزين، خشية أن يتعرض لأية مضاعفات غير محمودة خلال فترة النقاهة.
عدت من عملي عصر ذلك اليوم لأفاجأ بالوجوم على وجوه أطفالي. ما الجديد؟ سألتهم، فسارع طفلي الأصغر الى بث بيان نعي “كيوي” على مسمعي بعبارة يطفح منها الأسى: “لقد مات كيوي”، قال، وانتظر ردة فعلي بشغف.
“وماذا فعلتم بجثته؟” سألت، فأجابوا بأنهم “كفنوه” في كيس من البلاستيك ودفنوه في زواية من أرض الحديقة الخلفية.
“عوض الله بسلامتكم” واسيت أطفالي، ومازحتهم كي أزيل بعض الغم عن قلوبهم: “غدا ستنبت على ضريحه الحشائش والورود، ويمكنكم زيارة مرقده كلما تشاؤون”. واضفت “كل الأعمار محكومة بالنهاية ومحروسكم كيوي كان لا بد ميت بعد أشهر قليلة لأن عمره الأقصى سنتان”. لكن طفلي الأصغر رد مستنكرا، ومسفها معلوماتي عن أعمار هذا الصنف من الطيور: “يمكنه أن يعيش لعشر سنوات” وأحسست أنه يود لو يرثي عمره القصير، ثم غرب عن وجهي وفي عينيه التماعة دمعة جاهد لحبسها.
نظرت نحو موقع “الضريح” في زاوية الحديقة، فاذا بكيس بلاستيكي أبيض يرتجف تحت وطأة نسيمات خفيفة. هل هذا هو الكيس الذي ضم الفقيد؟ سألتهم، فاجابوا: “أوه ياه” العاصفة الرهيبة التي هبت البارحة يبدو أنها نبشته من مثواه، وأبدوا خشيتهم من أن تكون احدى القطط الشاردة قد التهمته!
اتجهت نحو الكيس، فتحته، فاذا بالجسد الملون بالأخضر والأسود لايزال على حاله تناولت معولا صغيرا وحفرت للراحل “كيوي” حفرة تبلغ من العمق ما يؤمن “استقراره” وأودعته برفق ثم أهلت عليه ترابها، وعدت لأطفالي لأبلغهم: لقد بات صاحبكم كيوي في مستقر آمن وبامكانكم الان أن تغرسوا فوقه نبتة ورد لتكون شاهدا على الضريح، تتجدد كل ربيع.
شعر الأطفال بشيء من الانفراج الداخلي وافترت وجوهم عن بسمات رضى قبل أن يتوجهوا الى شاشة التلفاز لمتابعة أحد برامجهم المفضلة ويتركوني نهباً لأسئلة وتخيلات لا حصر لها دهمتني من سحيق طفولتي، عندما كان موت ألف طائر في اليوم لا يثير انباهنا، وأيام كانت أقسام الطوارئ حكراً على ميسوري الأحوال من بني البشر!
ع.ب
Leave a Reply