كان من شأن الحادثة التي جرت فصولها المأساوية بين مطاري بيروت والرياض، وذهب ضحيتها الشاب اللبناني فراس حيدر (20 سنة) أن تزعزع أركان السياسة وتقض مضاجع السياسيين في بلد الأرز، فهذه الحادثة بتفاصيلها الغريبة والمؤلمة بعثت برسالة مدوية مفادها أن اليأس من الأوضاع القائمة بات سيد السلوك، لدى شرائح الشباب، وأن الآتي أعظم في ظل انسداد جميع الآفاق الاقتصادية والسياسية، وفلتان الأوضاع الأمنية في البلد الصغير الذي يعيش حالة خطر خارجي وخصومة بين مكوناته السياسية والطائفية على مدار الساعة.
لو تسلل شخص الى منظومة عجلات طائرة تهم بالاقلاع ونجح في محاولته، في بلد غير لبنان، لسقطت حكومة ذلك البلد، اذا كنا نتحدث عن حكومة تمثل الشعب ومنتخبة من الشعب.
في لبنان الذي يمثل مطاره الدولي اليتيم متنفسه واطلالته الوحيدة على العالم، لا أحد من سياسييه أو مسؤوليه حركت فيه الحادثة حسا انسانيا، بل انبرى الجميع الى استغلالها في السياسة، والبلد على أبواب موسم سياحي “واعد” يتوسم المسؤولون فيه عونا على الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تطحن مئات ألوف اللبنانيين بأنيابها الحادة. فورا تم تسريب أن الضحية الشاب فراس حيدر مصاب بـ”اختلال عقلي” وأنه يتعاطى “المخدرات”، ولم يرأف الاعلام اللبناني، الذي أصبح منذ عدة سنوات أبواقا متقابلة بمعظمه تنطق باسم زعماء الطوائف، بالشاب وبعائلته وبيئته، فتم التعاطي مع موته المأساوي من منطلقات الاثارة والوقوف عند شكليات الحادثة وتعمد تجاوز أسبابها ومضامينها العميقة.
وحده قائد أمن المطار العميد وفيق شقير شعر بالمسؤولية الأخلاقية، قبل القانونية، وانبرى الى طلب اعفائه من مهامه. صمت السياسيون، بمن فيهم “مرجعية” قائد أمن المطار الذي كان استهدافه في أيار 2007 قد وضع البلد على حافة حرب أهلية مذهبية. أصيب الجميع بالإحراج وبدا أن عائلة حيدر الجنوبية المحسوبة على بيئة المقاومة والمقيمة عند أطراف مدرج مطار بيروت في حي برج البراجنة قد اعتصمت بالصمت هي أيضا، ليس فقط حزنا على ابنها الذي وصف بأنه من أذكى أبناء جيله ويتمتع بطموح لا تحده آفاق، وانما احتجاجا على ذلك الاستهتار بكرامتها وكرامة ابنها الذي تبرع الاعلام المتجرد من ضميره المهني في اطلاق شتى النعوت عليه دون أي تدقيق.
أضافت جثة الشاب اليافع فراس حيدر الممزقة أشلاء داخل منظومة عجلات الطائرة السعودية مادة سجال جديدة حول أمن المطار وأدواته. لكن أحدا لم يقل كيف يجب أن يصان هذا الأمن وقبل ذلك لم ينبرِ أحد من المكلفين أنفسهم بمصائر اللبنانيين الى طرح ولو سؤال لماذا أقدم فراس حيدر على اقتحام الموت وكأنه يقبل على حياة جديدة لم يجدها في حزام البؤس الذي اعتلت فوقه طبقة بأكملها من سياسيي الطائفة التي ينتمي اليها فراس.
ولو سئل خبير في علم النفس السلوكي عن دوافع فراس حيدر لكان الجواب الأكثر انسجاما مع المنطق والعلم هو أن فراس وما يمثله من جيل بأكمله من العاطلين عن العمل والواقعين في دائرة اليأس من امكان قيام دولة ترعى شؤونهم، قد قرروا سلوك أسرع الطرق للخروج من “جهنم البلد” ولو كانت الفرصة السانحة الجسم السفلي لطائرة لا يتطلب ركوبه قطع تذكرة سفر، وقبل ذلك الحصول على تأشيرة مستحيلة الى أي بلد في العالم.
تجاوز فراس حيدر امتحان هدير المحركات المرعب فلجأ الى صم أذنيه بسدادتين من فلتر السجائر التي كان يحملها، واستقر حيث كان يعتقد أنه بساط الريح لتسريع تحقيق حلمه بالانتقال مع خطيبته الى منزل جديد وتأسيس عائلة، ومد يد العون الى منزله الأبوي الذي تنهشه أنياب الفقر.
لكن فراس أقفل أذنيه من زمان ليتجنب سماع صراخ سياسيي البلد وزعاماته الطائفية الذين أوصلوا الناس الى مستنقع اليأس. قرر في لحظة أن يخترق “الاجراءات الأمنية” الهشة لمطار عاصمة بلده وهو الذي يقيم على بعد امتار من المدرج ويشاهد حركة الإقلاع والهبوط بلهفة المنتظر للحظة فرج تتيح له التحليق في فضاءات جديدة، بحثا عن فرصة عمل ولقمة عيش كريمة لا تحتاج الى جواز مرور لدى زعماء الطوائف المنتصبين حاجزا بينه وبين دولة ترعى شؤونه وشؤون أقرانه من ألوف الشباب المتسكعين على أرصفة وشرفات البطالة. لم تعد الأحزاب والتنظيمات المسؤولة عن شؤون أبناء طوائفها على استعداد لـ”توظيف” الشباب العاطل عن العمل في “كوادرها النضالية” كما كانت الحال ابان الحرب الأهلية.
من قال بأن الشباب اللبناني سيبقى مستمعا جيدا الى خطب سياسييه وأمراء طوائفه؟
انظروا الى فراس حيدر كيف خرج من طابور الذل والتسكع على أبوابهم الى حتفه وكأنه مقبل على لقاء حبيبته.
ما أهون الموت في عيون هؤلاء الشباب بين عجلات طائرة تشق عنان السماء أمام الجلد والتعذيب اللذين يمارسهما أقطاب السياسة على الشاشات الفضائية المكرسة لتيئيس الناس من قيامة الدولة الجامعة والعادلة والراعية لشؤون أبنائها.
فراس حيدر، بموته المدوي الذي احتل صدارة الأخبار العالمية في ذلك اليوم التموزي اللاهب يعلن، رغم مكابرة القيميين على مصائر الناس في بلد الأرز، أن كل المشاريع السيادية والنضالية والجهادية التي لا تقيم وزنا لكرامة الإنسان، مصيرها السقوط المحتوم.
Leave a Reply