بيروت –
ليس مفاجئاً أن يظهر عملاء في دولة يعملون لدولة أخرى معادية، فتاريخ الدول والشعوب، مليء بالجواسيس، الذين عملوا لصالح العدو، وكان مصيرهم الإعدام.
وفي لبنان، ظهر في تاريخه عملاء لإسرائيل، ولكن لم يكن العدد كبيراً، كما ظهر في السنوات الأخيرة، لاسيما بعد العدوان الإسرائيلي في العام 2006، إذ انكشفت شبكات من العملاء حيث وصل عدد المعتقلين الى أكثر من 50 شخصاً خلال العامين الأخيرين، يتوزعون على طوائف ومذاهب وفق التصنيف الطائفي، وبعضهم لديه انتماءات سياسية وحزبية، كما أن من أوقفوا احتلوا مراكز في منظمات وأحزاب لبنانية وفلسطينية، وكان الأخطر هو اكتشاف خرق إسرائيلي للجيش اللبناني والأجهزة الأمنية، فتمّ كشف ضلوع نحو خمسة ضباط من الجيش، وضابط متقاعد في الأمن العام، وعناصر في قوى الأمن الداخلي، أما الصيد الثمين في كشف العملاء، فكان وقوع شربل قزي، الموظف في شركة “ألفا” التي تشغّل الهاتف الخلوي في لبنان، والذي ذكرت المصادر الأمنية أنه ومنذ العام 1996، يزوّد العدو الإسرائيلي بمعلومات عن شبكة الاتصالات الهاتفية الخلوية، حيث توصل من خلال موقعه التقني في الشركة، أن يعطي أرقاماً تشغيلية password للدخول الى الشبكة، والحصول على المعلومات حيث تبيّن أهمية الاتصالات، في الصراع المخابراتي مع العدو الإسرائيلي، الذي لم يتمكن من الوصول الى المقاومة وقيادتها وأسلحتها وتجهيزها، لأنها كانت أنشأت شبكة خاصة بها، التي حاولت حكومة فؤاد السنيورة، في 5 أيار 2008، إزالتها عبر القرار الشهير الذي اتخذته، وتصدت له المقاومة وحلفاؤها، وتمكنوا من إلغائه، وقلب المعادلة السياسية الداخلية، لصالح المعارضة، عبر ضرب المشروع الأميركي وإسقاطه، والذي سار في ركابه فريق “14 آذار”، ورهن وجوده في السلطة له ،مقابل تنفيذ ما كانت تطلبه منه الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش، والتي ركّزت على نزع سلاح المقاومة، وقد فشلت في الحوار كما في الحرب التي شنتها إسرائيل صيف 2006 في تحقيق أهدافها، وحاول أطراف لبنانيون استكماله من خلال إزالة سلاح الإشارة لدى المقاومة، وقد حصد الطرفان الأميركي والإسرائيلي ومعهم وكلاء لبنانيون الفشل، وانتصرت المقاومة.
ومع اكتشاف عملاء في شركة الاتصالات الخليوية، وكان آخرهم طارق الربعة، يظهر أن إسرائيل تمكّنت من أن تدخل الى عمق لبنان، وتحتل منازل اللبنانيين، وتعرف تفاصيل حياتهم، وباستطاعتها أن تتسلّل الى كل شيء، وأن تستغني عن زرع مئات العملاء لها في كل لبنان من خلال إمساكها بشبكة الاتصالات.
لكن ما غنمته إسرائيل من شبكة اتصالات الخلوي، لم يوصلها الى معلومات عن المقاومة، وهو ما ظهر من خلال عدوانها قبل أربع سنوات، لذلك لجأت الى الأدوات البشرية، بزرع العملاء في العديد من المناطق، والذين كانوا عيونها وآذانها، وساعدوها على تزويدها بمعلومات تتعلّق بمنازل لقادة المقاومة وكوادرها ومؤسساتهم، إضافة الى المرافق العامة المعروفة من جسور ومبانٍ حكومية وعسكرية وأمنية، وقد اعترف عدد من العملاء عن الدور الخياني الذي قاموا به، وقد أصدر القضاء العسكري اللبناني قراراً بالإعدام بحق محمود رافع، وهو عنصر سابق في قوى الأمن، تجنّد منذ سنوات للعمالة لإسرائيل، وشارك في اغتيال الأخوين نضال ومحمود المجذوب في صيدا في أيار 2006، وقبل العدوان بشهرين، كما صدر قرار آخر بإعدام علي منتش الذي ساعد العدو في قصف منازل ومؤسسات وطرقات، وهذه قرارات أولى وستلحقها أخرى.
وقرار الإعدام بحق منتش سينفّذ فور وصوله الى القصر الجمهوري، حيث تعهّد الرئيس ميشال سليمان بتوقيعه دون إبطاء وفوراً، لأنه بات من الضروري تحصين المجتمع اللبناني من تغلغل العملاء فيه، وتواجدهم داخله، بعد التساهل مع العملاء الذين كانوا في صفوف ميليشيا لحد، تحت اعتبارات سياسية وطائفية وإنسانية، وتصرفت المقاومة معهم بكل رقي، وتركتهم للقضاء ليقتص منهم، ومنعت عمليات الثأر وردود الفعل، حيث لم تحصل ضربة كف، بعكس ما حصل في دول كثيرة، أقيمت فيها محاكم ميدانية قُتل فيها العملاء.
هذا التساهل، ربما هو الذي ساهم في أن تقوم بيئة سياسية وشعبية حاضنة للعمالة، التي نمت بعد العام 2005، وإثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي تمّ فيه احتمال أن تكون إسرائيل وراء قتله وهي المستفيدة من ذلك، وصعود المشروع الأميركي، وتقدّم المخطط الإسرائيلي، إذ كان لبنان وفق المفكرة الإسرائيلية، سيعود الى الحضن الإسرائيلي، وتوقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية، وهو المشروع الذي أفشلته المقاومة الوطنية وسوريا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وكان يستهدف تركيب حكم لبناني موالٍ للعدو ويوقّع معه اتفاق سلام، عُرف بـ”اتفاق 17 أيار” الذي أسقطته القوى والشخصيات الوطنية اللبنانية بمساعدة سوريا، وتمكّنت من أن تهز الحكم الكتائبي برئاسة أمين الجميل، الذي كان من إفرازات الاحتلال.
وقد ظهر الصراع على أشده بين مشروعين، الأول وطني مقاوم حليف لسوريا، والثاني مساوم واستسلامي حليف لأميركا ومشروعها، وهو ما انعكس في الإعلام والسياسة، وبرز انقسام حاد داخل المجتمع اللبناني، إذ بدأ فريق لبناني تمثّله قوى “14 آذار”، يروّج للعداء لسوريا وإيران ويحرّض على المقاومة، ولا ينفك يقول بأن كل من يتحدّث عن قتال إسرائيل، ومناهضة أميركا التي تحمل الديمقراطية الى لبنان والمنطقة، يحمل خطاباً رجعياً ولغة خشبية، وسادت عبارة ثقافة الحياة، في وجه ثقافة الموت وفق نظريتهم التي تمثلها المقاومة.
هذه البيئة السياسية والفكرية، والتي تمتد جذورها الى بداية القرن الماضي، وترعرعت في كنف مدرسة انعزالية مثلتها الكتائب كحزب، أقام أول اتصال بالعدو الإسرائيلي في الخمسينات وفق مذكرات موشي شاريت، الذي كشف عن أن إسرائيل تبحث عن من يتبنى قيام “دولة مارونية”، أو مسيحية في لبنان، تكون حليفة لإسرائيل، وهذه النظرية كادت أن تتحقق في مطلع السبعينات، وكشفت عنها الوقائع من خلال الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، وما أظهرته الوقائع من تعاون كتائبي-إسرائيلي موثق، عبّر عنه دعوة بشير الجميل لإقامة دويلة مسيحية من جسر كفرشيما الى المدفون.
فمثل هذه البيئة الحزبية والسياسية وغيرها من البيئات التي تعتبر أن العمالة لإسرائيل، وجهة نظر، وقد شجع على تطور ثقافة العمالة، الأبواب التي فتحتها الأنظمة العربية للمفاوضات مع إسرائيل، وكذلك المعاهدات التي تم توقيعها مع الدولة العبرية، إضافة الى التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية. في المقابل، كانت في لبنان تنمو ثقافة المقاومة التي تكرست وتعززت بعد الانتصارين اللذين تحققا في أيار 2000 وآب 2006، وتبعهما الانتصار الذي تحقق في غزة مطلع 2009، حيث بدأت أمام تقدم ثقافة المقاومة، وسقوط التطبيع الشعبي مع إسرائيل، ومحاصرة الأنظمة العربية المستسلمة وانسداد أفق السلام مع الكيان الصهيوني الذي لم يوقف بناؤه للمستوطنات واستمر في رفع جهوزيته للحرب.
هذه الثقافة المقاومة، فضحت العملاء، وبدأت شبكاتهم تنكشف، وما ساعد في لبنان على ذلك، هو أن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وبعد أن سرت حوله الكثير من الشائعات والأخبار عن تورط عناصر منه، في أثناء العدوان، وبعد أن ظهرت صورة الضابط في قوى الأمن الداخلي عدنان داوود يقدم الشاي لضباط وجنود العدو الإسرائيلي في ثكنة مرجعيون، هذه الصورة حاولت قوى الأمن محوها من خلال اعتقالها لعدد من العملاء، وكان إنجازا وطنيا حاز على تأييد سياسي وشعبي لبناني، لكن بقيت ثغرة حصل عليها جدل، وهو حول العميل قزي ومعرفة فرع المعلومات به، وتأخره عن كشفه واعتقاله، وهي أسئلة وجهها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، حول هذا الموضوع، حيث جاء الرد، من مصادر في قوى الأمن، أن هذا العميل كان مرصوداً من فرع المعلومات لكن تأخر وزارة الاتصالات في إعطاء الأذن بمراقبة خطه الهاتفي، هو الذي سمح لمديرية المخابرات في الجيش بتوقيفه.
والسؤال ليس حول التنافس الذي يظهر بين الأجهزة الأمنية، في هذا الموضوع أو غيره، ولكن ماذا عن تحصين المجتمع اللبناني في وقف تغلغل العدو الإسرائيلي، والذي يساعده هو الجو السياسي الذي أوصل الى حد اعتبار سوريا هي العدو وإسرائيل الصديق، وهذا ما عبّر عنه قياديون سياسيون بالصوت والصورة في لبنان، وكان أفصحهم سمير جعجع عندما قال البحر من أمامنا والعدو من ورائنا، وهذه ثقافة تربى عليها رئيس “القوات اللبنانية” فكرياً وسياسياً، وكانت الشعارات تكتب في المناطق التي سيطرت عليها القوات أثناء الحرب، بأن “السوري عدو”، وهو ما سعى البعض في أن يتسلّل ويتسرّب الى الشريحة الإسلامية، السنية والدرزية، وتم التصدي لها وإسقاط هذه المقولات وقد تراجعت منذ عامين، بعد التحولات التي حصلت مع النائب وليد جنبلاط الذي عاد للتأكيد على العمق السوري للبنان، وعلى تضحيات سوريا في سبيل لبنان، ومثله بدأ يفعل الرئيس سعد الحريري الذي عليه أن يزيل من جمهوره فكرة العداء لسوريا، حيث البيئة المسلمة في لبنان، بيئة وطنية قومية وحدوية عربية مقاومة، وهذا التبدل في المواقف والمواقع، حصّن الوضع الدرزي والسني الداخلي، بعد أن تمكنت المقاومة من تحصين مجتمع حاضن لها في البيئة الشيعية، وكذلك يجهد “التيار الوطني الحر” و”تيار المردة” وشخصيات مسيحية وطنية، لفك ارتباط التفكير المسيحي بالغرب وتالياً بإسرائيل كصديق، والتوجه نحو الجذور المشرقية للمسيحية، وأن قاتل المسيح هم اليهود.
لكن أخطر ما في سيطرة إسرائيل على شبكة الاتصالات، عبر عملاء لها، هو ما يمكن استخدامه في المحكمة الدولية، التي نشر عنها في مجلة “دير شبيغل” الألمانية أنها لديها معلومات استفتها من اتصالات لعناصر من “حزب الله”، كانوا يتحدثون فيما بينهم حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تدينهم بأنهم متورطون، وهو ما ترك الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله يشكك بالمحكمة وعملها، إذا كانت ستستند في قرارها الاتهامي، على مزاعم إسرائيلية وبذلك تكون محكمة إسرائيلية، تستهدف المقاومة أولاً وأخيراً، ولهذا تصبح إسرائيل متهمة باغتيال الحريري للوصول الى المقاومة ولإشعال فتنة مذهبية سنية-شيعية عبّر عنها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي أشكينازي عندما أعلن أن لبنان سيشهد توتراً وحرباً داخلية على خلفية القرار الظني أو الاتهامي الذي ستصدره المحكمة في أيلول المقبل وتتهم فيه “حزب الله”، كما ذكرت “دير شبيغل” تماماً وهذا يعني أن إسرائيل تحضر لأيلول أسود في لبنان.
Leave a Reply