كانت إمارات التجهم والقلق بادية على وجه الرئيس اللبناني “التوافقي” ميشال سليمان، وهو يستقبل “غريمه الرئاسي” زعيم “تكتل التغيير والاصلاح” النيابي الجنرال ميشال عون، في إطار سلسلة من القاءات التشاورية الطارئة التي دعا اليها، مع أقطاب طاولة الحوار الوطني، على خلفية أجواء التوتر السياسي التي انتشرت بسرعة عقب الخطاب الذي القاه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله وردود الفعل عليه، والذي اعتبر فيه أن المحكمة الدولية “مشروع اسرائيلي” وضمنا من يمشي معها أو يتابع المطالبة بعملها إنما يخدم هذا المشروع عن حسن أو سوء نية.
وقلق الرئيس اللبناني مبعثه ما تداولته وسائل اعلام لبنانية (صحيفة السفير) عن “سيناريو” مصدره جهات دبلوماسية غربية تبلغه الجنرال عون، (أعلن لاحقا أنه سيناريو متخيل مبني على خبرته بالحروب الثورية) مفاده أن القرار الظني المتوقع صدوره عن المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري سوف يتهم عناصر من “حزب الله” ويتزامن مع دخول اسرائيلي على خط الفتنة الداخلية، ومع تحركات عسكرية في المناطق المسيحية لمحاولة فرض واقع جديد فيها.. وبناء على السيناريو ذي المصدر الغربي (بداية) والمتخيل (لاحقا) دعا الجنرال ميشال عون وفق تقرير صحيفة “السفير”، حليفه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أن يتنبه الى “انهم سوف يحاولون قتلكم مرة اخرى يا سماحة السيد.. وممنوع عليكم أن تصرخوا..”، لينطلق من ثم الى دعوة الحليف الشيعي الأقوى الى المبادرة الى “تغيير قواعد اللعبة” بدءا من اجراء تغيير حكومي، لأن الحكومة الحالية غير قادرة، أو لا يسودها الانسجام الكافي لمواجهة السيناريو الجهنمي الذي يؤمن الجنرال عون بحصوله وبأن له أنصارا في “جيوب مسيحية” يستحسن بالقوى العسكرية لحزب الله أن تقوم “بتطهيرها”.
بدا لساعات أو أيام قليلة أن اتفاق الدوحة الذي أعطى لحمة شكلية للقوى المتناحرة على مدى أربع سنوات عقب اغتيال الرئيس الحريري قد بات في مهب رياح الانقسام الداخلية المحمولة هذه المرة على قرار ظني من المحكمة الدولية و”تبشير” اسرائيلي لم يبخل في تقديمه عدو اللبنانيين جميعا من خلال التصريح –الفتنة الذي أطلقه رئيس الأركان الاسرائيلي غابي اشكينازي بأن لبنان مقبل في الخريف المقبل على توترات داخلية على خلفية القرار الظني الذي سيوجه الاتهام الى عناصر من “حزب الله”. وزاد من وتيرة القلق ما أعلنه السيد نصر الله من أن لديه “أموراً أخرى” سيقولها عما قريب.
لكن السيد نصر الله الذي سرع ظهوره الاعلامي من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في الضاحية الجنوبية مساء الخميس الماضي خيب توقعات بعض الطامحين الى جر الحزب الى اجراءات “ميدانية” وسياسية سريعة تقلب الطاولة على رؤوس الجميع.
سِمَتا الهدوء والحزم غلبتا في حديث السيد نصرالله الذي أظهر حرصاً لا يقبل الشك على تجنيب البلد مزيدا من الأزمات وابعاد أجواء الفتنة. فحديث السيد نصرالله لم يتضمن “تفجير قنابل” سياسية وأمنية، رغم احتفاظ الرجل بخيارات الدفاع عن حزبه أمام الهجمة الجديدة التي يتعرض اليها بعدما تيقن من استهدافه بقرار المحكمة الذي “برأ سوريا” وحول وجهة الاتهام نحوه.
واذا كانت عجالة تحليل مضمون المؤتمر الصحفي للسيد نصر الله تقتضي الابتعاد عن الجزم بنوايا الرجل الذي دهمته في الآونة الأخيرة مطالب طموحه لحليفه المسيحي الأبرز، الا أنه يمكن الجزم بحرصه على الحفاظ على الخيط الأخير من وحدة أبناء البلد لأن فيه مصلحة للحزب الذي لا يتعب من القول أن وجوده وسلاحه هما للدفاع عن لبنان وسيادة لبنان بوجه الخطر الاسرائيلي الماثل والذي تؤكده يوميا تصريحات القادة الاسرائيليين وآخرها التهديد الفظ الذي أطلقه رئيس الأركان غابي اشكينازي من أن جيشه لن يتوانى عن ضرب أهداف مدنية تقع فيها أو على مقربة منها ما يزعم أنها “مخابئ لصواريخ” خزنها “حزب الله” في المناطق الحدودية التي تقع ضمن عمل قوات “اليونيفيل”.
لا يختلف عاقلان أن قيادة “حزب الله” غير معنية باثارة توترات داخلية أو الإطاحة بحكومة “الوحدة الوطنية” وباتفاق الدوحة الذي أنتجها وأبعد شبح الحرب المذهبية قبل نحو عامين، وهو اتفاق وليد توافق عربي-اقليمي ودولي، لا يعود أمر التفريط به الى طرف داخلي لبناني مهما علا شأنه.
بل ان منطق الأمور يفيد بأن “حزب الله” أكثر حرصا الآن على ما تبقى من وحدة وطنية من أي وقت مضى، على ضوء تصاعد احتمالات قيام اسرائيل بشن اعتداء جديد على لبنان ومقاومته وشعبه وجيشه. فالمتفحص في التصريحات الصادرة عن قادة اسرائيل السياسيين والعسكريين لم تعد تربط حربها القادمة على لبنان بحدث طارئ من نوع قيام حزب الله بعملية عسكرية أو أمنية ضد اهداف اسرائيلية، وترى أن مسوغ شن حرب ضد لبنان قائم من ضمن تفسيرها لمندرجات القرار الدولي1701 الذي تزعم أن “حزب الله” يقوم بخرقه من خلال تخزين الأسلحة في منطقة عمل اليونيفيل وهذا يكفي في نظر اسرائيل لاستئناف العمليات العسكرية التي لم تتوقف بموجب قرار رسمي بوقف اطلاق النار.
وما يزيد من احتمالات قيام اسرائيل بارتكارب عدوان جديد على لبنان، نجاح رئيس حكومة اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو في “ليّ ذراع” الادارة الأميركية بعدما ساد الظن أن هذه الادارة كانت تعمل على “لي ذراع” الحكومة الاسرائيلية وجلبها الى بيت الطاعة الأميركي. ويجب هنا تذكر العهد الذي قطعه الرئيس الأميركي باراك أوباما لنتنياهو بعدم السماح بأي تهديد لأمن الدولة العبرية وهو ما ترجم باطلاق يد الحكومة الاسرائيلية، خلال الزيارة الأخيرة لنتنياهو الى واشنطن، للتعامل مع التهديدات الأمنية والعسكرية في المنطقة، حتى أن بعض التقارير الأميركية أفادت بأن أوباما منح نتنياهو الضوء الأخضر “للتعامل مع أخطار الجبهة الشمالية”.
وبعض هذه التقارير اتخذ عنوان “الحرب المقبلة في لبنان” ووضعه السفير الأميركي الأسبق في القاهرة وتل أبيب دانيال كرتزر لصالح احدى مؤسسات البحث الأميركية. يستعرض هذا التقرير ليس احتمالات نشوب الحرب على الجبهة اللبنانية بل تداعياتها ومدتها ومدى قدرة اسرائيل على تحقيق اهداف سياسية منها، واحتمالات التدخل الأميركي لمساعدة اسرائيل في تلك الحرب وتحقيق “انتصار” فيها.
والخطير في سلسلة التهديدات الاسرائيلية في الآونة الأخيرة بحرب مدمرة تطال المدنيين اللبنانيين، أن قادة اسرائيل لا يبدون مكترثين بعبر حرب تموز 2006 وهم لا يخفون الاشارة الى وقائع جديدة في لبنان حتى الخريف القادم، بسبب المحكمة الدولية. والأخطر والأكثر مدعاة للحيرة والخوف أن الادارة الأميركية وبعض أعضاء الكونغرس الذين لا يملون من تجديد حرصهم على استقرار لبنان، لم يستفيدوا من تجربة الادارة الجمهورية السابقة التي “خربت بيت” الفريق السيادي المنضوي تحت لواء “14 آذار” آنذاك بمديحها المفرط لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الذي لاتزال قبلته على خد كونداليزا رايس تلاحقه حتى الآن من جانب خصومه السياسيين.
فالمسؤولون الأميركيون على كافة مستوياتهم يتعاطون مع الملف اللبناني بطريقة اقرب الى التعاطي الإلكتروني المبني على تغذية حواسيبهم بوقائع ومسلمات اسرائيلية في النظرة الى الشأن اللبناني. فها هي السفيرة الأميركية الجديدة المعينة في بيروت مورا كونالي تمثل أمام الكونغرس لتدلي بشهادة قوامها “أن أهداف الدعم العسكري الأميركي للجيش وقوى الأمن اللبنانيين هو منع الجنوب من أن يستخدم قاعدة لشن هجمات على اسرائيل” وهو المرادف لعبارة “حماية اسرائيل”.
تلك دبلوماسية أميركية لا يمكن لحكومة الرئيس سعد الحريري التعويل عليها. وكان الأجدر بالسفيرة الجديدة (ثمة حكمة أميركية مجهولة بايفاد سفيرات نساء الى العاصمة اللبنانية!) أن تربط استعادة لبنان استقراره وسيادته بتحقيق السلام الشامل في المنطقة، لكنها امتنعت عن ايراد هذا الهدف في شهادتها لأن هذه الشهادة ليست سوى شهادة حسن سلوك تقدمها القوى اليهودية النافذة في مجلسي الكونغرس للسفراء الأميركيين المتوجهين الى الشرق الأوسط.
أما وعود الرئيس أوباما للعالمين العربي والاسلامي في مستهل رئاسته فقد تبخر الجزء الأكبر منها وتبين أن ما دعي بـ”الخلاف الأميركي-الإسرائيلي” على الاستيطان في الأراضي المحتلة ليس سوى فقاعات اعلامية كانت تواكبها لقاءات وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك في البنتاغون وزيادة التعاون العسكري الاستراتيجي بين تل ابيب وواشنطن.
خلاصة القول أن لبنان يقف عند منعطف حاسم يتوجب على اللبنانيين بكل فئاتهم أن يدركوا مخاطره وأن يحاصروا الفتنة الداخلية التي يبشرهم بها عدوهم الباحث عن التوقيت الملائم لحرب يخشى بقوة أنه قد نال الضوء الأخضر لشنها ويحاول ضبطها على مواقيت اضطراب داخلي لبناني لا تقتصر احتمالات اندلاعه على قرار ظني من المحكمة الدولية.
Leave a Reply