أجمل الأمهات
التي ودعتني في الصباح،
ساكنة العتبة، أمي، سيدة الرقيات،
مسحت جبيني بزيت راحتها
بضفيرة قليلة، ويدين من دعاء
حفرت ظلاً على الحائط
رافقتني إلى الباب
عُد باكرا، قالت لي
علقت في زندي شمساً وأحد عشر كوكبا.
كانت أجمل الأمهات، الحاجة أم قاسم قره علي، التي ودعت ابنها صباحا عند الباب ولم يرجع باكرا. انتظرته، وعاد إليها مستشهدا. بكت عليه دما ودمعا وغمرت جثمانه بورود حديقتها التي كانت تأمل أن تزين بها عرسه. انزوت في ثوب الحداد، لأن ابنها البطل كالعديد من الشهداء، قضى غدرا. حين تلبس الخيانة ثوب العمالة لتكون عونا للعدو وعملائه ضد الدم المقدس والعرق المبارك الذي يبذله الشهداء بشرف عند تعرض وطنهم لإرهاب عدو لا يرحم.
كان ذلك قبل خمس وعشرين سنة، في عملية بطولية نادرة، خطط لها طويلا، الشهيد عدنان قره علي ورفاق له، للقضاء على حسين عبدالنبي العميل الأول في عصابة الجيش الإسرائيلي الذي كان لا يقهر، والذي كان يعيث فسادا وجبروتا وإذلالا للبشر والشجر والحجر في قرى وبلدات الشريط الحدودي في جنوب لبنان. للأسف، بعض العملاء كشف العملية الاستشهادية ونجا العميل حسين عبدالنبي الذي عذّب الشهيد عدنان حتى الموت.
الدمع المبارك المسكوب من عينيها الجميلتين اختلط بتراب الأرض المروية بدم ابنها الطاهر، أنبتت شجرة سنديان قوية اسمها عدنان قره علي، أما العملاء والخونة فذاقوا الذل بموتهم المخزي على أيدي الشرفاء والعاملين باخلاص في حب نادر لا حد له حتى التضحية لمنح لبنان الذات كي يبقى خالدا ولعدم تضييعه كما ضاعت فلسطين وللإبقاء عليه وطنا واحدا مقاوما لكل من يظن أنه –لبنان- أرض سائبة ولقمة سائغة. واندحر العدو الذي كان لا يقهر، وعلى قبور العملاء والخونة نبت الشوك والبلان حيث يحرق سنويا.
مضت سنوات عديدة، بقيت فيها الأم الباكية على ابن فقدته مما أورثها المرض الذي كانت تشكوه لبعض المقربين من الأحباء والأصدقاء بغير يأس من احتمال التغلب عليه، لكنه الموت الذي يأتينا ولو كنا في بروج مشيدة. وهذا الأسبوع غادرت الحاجة أم قاسم قره علي دنيانا ممتلئة بالحسرة على بلد لا احترام فيه إلا للغوغائيين والمزاودين الذين وضعوه على حافة شديدة من الضيق نحو الانحدار. وأيضا، حسرة على حالنا الغارقة في الهموم الى حد النسيان.
لا تنفع الكلمات مهما رقت في رثاء أميرة المحبة وأميرة التواضع وأميرة البساطة، والتي كانت ذات نفس نبيلة، وروح متسامحة. رقيقة مثل النسمة وعالية مثل شجرة صنوبر. لم تفقد بسمتها الوضاءة رغم كل الحزن والألم وهي الآن في رحلتها الأخيرة، غير آسفة على هذه الدنيا حيث هناك حضن اشتاق لها يبسم من بعيد لتحضنه ويرتاح.
آمل، أنا التي خسرت بفقدانك قارئة ومشجعة لهذه الكلمات، أن لا يكون بقائي بعدك طويلا، ويكون عذابي لفراقك وكل الأحبة المرحومين قصيرا وعلى أمل الرجاء بأن تكون الآخرة خير وأبقى. هذا مع تمنياتي بطول العمر والصحة لكل أبنائك وأحبائك وأحر العزاء لهم.
الرحمة لك أيتها الحبيبة، وإنا لله وانا اليه راجعون.
* ملاحظة: الشعر في بداية المقال للشاعر والإعلامي زاهي وهبي.
Leave a Reply