يؤكد الاشتباك الذي خاضه الجيش اللبناني عند نقط عديسة الحدودية مع جنود للاحتلال الاسرائيلي اخترقوا منطقة يتحفظ عليها الجانب اللبناني جنوب الخط الأزرق، لاقتلاع شجرة من مدى مراقبة كاميراتهم، أن التوتر الذي يلف منطقة الشرق الأوسط قابل في أي لحظة ليتحول الى حرب تستعد اسرائيل لشنها وتتهيأ المقاومة اللبنانية للتصدي لها وإجهاض أهدافها. ويرى مراقبون كثر أن النزاع على شجرة في ظل الأوضاع السياسية المأزومة وآفاق الحلول المسدودة كفيل بأن يقدم شرارة اندلاع الحرب.
وما تقوم به حكومة نتنتياهو المصابة بعصاب الملف النووي الإيراني من ممارسات سواء في الداخل الفلسطيني أو على الحدود مع قطاع غزة جنوبا ومع لبنان شمالا يرسل إشارات لا يمكن إخطاؤها أن هذه الحكومة تعيش على مدار الساعة هاجس شن حرب تهدف الى محاولة اعادة هيبة الردع لجيشها بعد هزيمته الموصوفة في لبنان التي توجها اندحاره من الأراضي اللبنانية في ربيع العام 2000 بعد احتلال دام ربع قرن، ثم اخفاقه الذريع في استعادة جزء من الهيبة المسفوحة من خلال عدوان تموز الواسع في العام 2006 والذي انتهى دون أن تستطيع اسرائيل تحقيق أهدافها المعلنة بالقضاء على “حزب الله” الذي عاد بعد حرب تموز أقوى وأمنع عددا وعديدا وقدرة على جبه أي اعتداءات اسرائيلية على لبنان وارغام اسرائيل على التحسب ألف مرة قبل أن تقدم على مغامرة عسكرية جديدة.
لكن الركون بالمطلق الى “تعقّل” قادة حكومة اليمين الاسرائيلي أمر يجب الحذر منه بشدة. فهذه الحكومة، رغم ما تشيعه من عدم نيتها خوض حرب ضد لبنان، مكتفية بتهديدات للحكومة اللبنانية وتحميلها مسؤولية أي أعمال عدائية عبر الحدود الجنوبية، لاتزال منذ اليوم الأول لوقف العمليات العسكرية في مثل هذه الأيام من العام 2006 تعكف على استنباط العبر من حربها الفاشلة على لبنان بمقاومته وشعبه وجيشه وبناه، وتهيئ الأسباب لحرب تريدها مختلفة هذه المرة من حيث مداها وشمولية تدميرها والمجاهرة بالاستعداد لتدمير المؤسسات الحكومية اللبنانية والبنى التحتية، انطلاقا من تحميل الحكومة اللبنانية مسؤولية أي عمل يستهدفها سواء على الحدود أو في أي مكان من العالم.
ولعل اسرائيل كانت تريد من خلال اقتلاع الشجرة عند الخط الأزرق أن تختبر مدى استعداد “حزب الله” للانجرار الى التدخل الى جانب الجيش اللبناني أو قياس مدى استعداده للوقوع في فخ التوقيت الملائم لاسرائيل لشن حرب، والذي لن تعدم حكومة تنتياهو اختلاق ذريعة لها اذا اكتملت لديها الاستعدادات، وأزف الوقت المضبوط على الساعة الأميركية في العراق، للتحرك على جبهة الملف النووي الايراني وامتدادته اللبنانية والفلسطينية والعراقية.
وبعد الصواريخ المجهولة التي أطلقت مطلع الأسبوع على إيلات والعقبة و”اشتباك الشجرة” مع الجيش اللبناني وردود الفعل العصبية التي أطلقها كل من نتنياهو وباراك ضد لبنان وحكومته والتي عمدت الى التسريب عبر صحيفة “هآرتس” أن قيادة الأركان الإسرائيلية وضعت على الطاولة خطة جاهزة لتدمير الجيش اللبناني في كل المواقع التي تنتشر فيها وحداته على الحدود وفي عمق الجنوب، بدا أن الحكومة الاسرائيلية ماضية في تمهيد مسرح الحرب القادمة التي يخشى مراقبون ومحللون كثر أن تتطاير شطاياها في أكثر من اتجاه وقد تشمل سوريا هذه المرة، وفق ما ترجح “مجموعة الأزمات الدولية”. ووفق الورقة البحثية التي نشرها “مجلس العلاقات الخارجية” الأميركية الشهر الماضي وحذرت من أن الادارة الأميركية قد تجد نفسها مندفعة وراء قرار اسرائيلي مباغت لشن ضربة عسكرية ضد طهران أو القيام بحرب على الجبهة الشمالية لإزالة ما تعتبره تهديد الذراع الانتقامية لطهران في حال قامت بضربة عسكرية ضدها.
نحن مجددا أمام حلقة جديدة من الرقص على حافة الهاوية، على صخب الترويج الاسرائيلي لتوتر كبير سيلف لبنان مع حلول شهر أيلول المقبل عندما يصدر القرار الظني للمحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
واذا جاز التحليل، بإن “حزب الله” قد استمع الى نصائح عربية بعدم الوقوع في الفخ الاسرائيلي المنصوب على عجل عند شجرة عديسة، فاكتفى أمينه العام السيد حسن نصر الله بتحديز اسرائيل من مغبة تكرار الاعتداء على الجيش اللبناني لأن يد الاعتداء ستقطع، في المرة القادمة، مثلما استجاب لتمنيات عربية خلال قمة بيروت الثلاثية الأسبوع الماضي، لكن حكمة “حزب الله” تبقى عرضة للاستفزاز وربما للاهتزاز مع كل تسريب جديد حول القرار الظني للمحكمة الدولية التي عادت لتشكل رافعة انقسام بين مؤيديها واعتبارها مرجعيتهم للعدالة، ومناهضيها وعلى رأس “حزب الله” الذي أصدر حكمه بحقها وبأي قرار يصدر عنها باعتبارها “مشروعا اسرائيليا”.
واذا كان اشتباك العديسة وارواء شجرتها بدماء ثلاثة شهداء من الجيش والصحافة قد متن خيوط الجبهة الداخلية اللبنانية لساعات خلال الاشتباك وبعده، وأدى إلى وقوف كل القوى على اختلافها مع الجيش اللبناني بصفته المؤسسة شبه الوحيدة التي لاتزال تحظى باجماع اللبنانيين عليها، غير أن انقسامهم حول قضية المحكمة. لم يلبث أن اعادهم الى “سيرتهم الأولى”، وبدا أن الزيارة الملكية والرئاسية والأميرية التي شهدها لبنان في يوم واحد لم تفلح في تثبيت “شبكة الأمان” العربية التي كثر الحديث عنها، بلا لامستها بخجل لتبقي لبنان بين احتمالي “حرب الفتنة” أو “حرب الشجرة” وكلتاهما وبال على البلد الصغير الذي لم تعد اسفنجة ساحته قادره على امتصاص ذلك الكم الهائل من التوترات التي تحاصره من الداخل والخارج.
لقد نجا “حزب الله” ولبنان من كمين العديسة وقد لا يطول الوقت قبل ان تنصب اسرائيل كميناً آخر، على طريق مناوراتها المتواصلة لشن حرب باتت تعتبرها “حتمية” لإثبات تفوقها واستعادة ردعها.
Leave a Reply