بعد قرن تكالبت فيه المآسي على الشرق الأوسط، من المحزن والمثير للقلق رؤية كم من الأوهام الخطيرة مازالت تحكم سلوك الكثير من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. هذه الحقيقة أوضحها تقرير صدر مؤخراً عن “مجلس العلاقات الخارجية” النافذ في نيويورك تحت عنوان “حرب لبنان الثالثة؟”. وبعد أن قام بدراسة وتحليل العوامل على كل الجوانب، نصح معدُّ التقرير، السفير الأميركي السابق في مصر وإسرائيل دان كُرتزر، صناعَ السياسة الأميركية بالاستعداد لإمكانية اندلاع حرب في غضون الـ12 إلى الـ18 شهرا المقبلة بين إسرائيل وقوات “حزب الله” في لبنان. (والجدير بالذكر هنا أن كرتزر كتب تقريره قبل انتشار شائعات تفيد بأن محكمة دولية قد توجه لأعضاء في “حزب الله” تهمة الوقوف وراء اغتيال رفيق الحريري. ولئن كان هذا قد ولَّد مجموعة جديدة من التخوفات التي جعلت التركيز اليوم منصباً على الاستقرار الداخلي للبنان بدلًا من الحرب مع إسرائيل، فإن تقرير مجلس العلاقات الخارجية يظل مفيداً بالنظر إلى تحليلاته والأخطار التي يبحثها).
التطورات التي دفعت “كرتزر” إلى إعداد هذا التقرير هي من شقين: تخوفات إسرائيل المتزايدة من كمية ونوعية الأسلحة التي يُزعم أن “حزب الله” يجمعها في انتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي 1701، والخطاب الناري التصعيدي على الجانبين. ويستبعد كرتزر أن يكون “حزب الله” هو السباق إلى إطلاق شرارة الحرب، معتبراً أن الأرجح هو أن تحاول إسرائيل جر “المليشيا” اللبنانية إلى حرب، أو أن تبادر بشن هجوم على مواقع “حزب الله” في لبنان في محاولة لـ”إضعاف قدرات” الجناح العسكري للحزب.
غير أن كرتزر يحذر من أنه لا خير يرجى من تجدد الحرب على اعتبار أن لبنان ستدفع من جديد ثمناً باهظاً؛ وأن وإسرائيل، التي تعاني أصلاً نوعاً من العزلة الدولية، ستضرر مكانتها أكثر؛ كما أن مثل هذه المغامرة لن تؤدي على الأرجح إلى إزاحة أو إضعاف “حزب الله”. وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة ستشهد انتكاسات قوية لأهدافها السياسية الرئيسية الثلاثة في الشرق الأوسط وهي: “إبطاء أو إيقاف برنامج إيران النووي، وسحب القوات المحاربة من العراق، والمساعدة على إنجاح مفاوضات السلام في الشرق الأوسط”.
ورغم اقتراح كرتزر جملة تدابير يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة من أجل الحيلولة دون وقوع هجوم إسرائيلي، أو الحد من الأعمال الحربية، بعد اندلاعها، فإنه يعترف بأن تضافر عاملي التشاحن الحزبي وعمل اللوبي الإسرائيلي سيكبح الإدارة على الأرجح ويعيق اتخاذها لموقف قوي للضغط على إسرائيل أو الانخراط بشكل أكثر فعالية مع إيران وسوريا، أو لفتح حوار مع “حزب الله” – بهدف تخفيف التوترات الإقليمية.
وفي الختام، يخلص كرتزر إلى أنه إذا كانت الولايات المتحدة “ينبغي أن تعمل على تجنب حرب أخرى في لبنان، فإن قدرتها على فعل ذلك تظل محدودة”؛ ليخلص بالتالي إلى أن أفضل الخيارات المطروحة أمام الإدارة هي الاستعداد لأسوأ سيناريو. ومن بين تلك الخيارات: “تحسين عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية الأميركية والتعاون الاستخباراتي الأميركي الإسرائيلي؛ والتأكيد علناً على الدعم الأميركي لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس والمخاوف بشأن إعادة “حزب الله” تسليح نفسه؛ وتكثيف الضغط الدبلوماسي على سوريا؛ والاستعداد لمبادرات دبلوماسية ممكنة بعد الحرب”.
بعد قراءة تقرير مجلس العلاقات الخارجية، قفزت إلى ذهني مجموعة من الأسئلة، تركز على الأوهام الخطيرة التي يبدو أنها توجِّه سلوكَ كل الأطراف المعنية في “رقصة الموت” الغريبة هذه. فإذا كان لا خير يرجى من حرب لبنانية ثالثة، مثلما أشار كرتزر، فلماذا إذا نحن على حافة الحرب من جديد؟ وفي أي مرحلة سيدرك المخططون العسكريون الإسرائيليون أن حرباً واحدة إضافية لن تقرِّبهم من السلام والقبول في المنطقة، تماما مثلما لم تفعل من قبل أي من حروب الماضي؟ وإذا كان “حزب الله” يخشى حقاً على حقوق وسلامة وأمن ورخاء أبناء وطنه، فلماذا هو مستمر في لعبة إعادة التسلح والتصعيد الخطيرة هذه؟ وإذا كان لدى الولايات المتحدة الكثير لتخسره، فلماذا سيحد التشاحن الحزبي واللوبي الإسرائيلي من قدرتها على حماية مصالحها القومية عبر العمل بشكل فعال على كبح جماح هذا الجانب أو فتح حوار مع الآخر؟ وهل يستطيع دان كرتزر، الذي حدد تحليلُه الرصين والمقلق في آن واحد الكلفةَ وعبثية وأخطار تجدد الحرب، أن يعتقد حقاً أن التوصيات التي يقترحها في ختام تقريره ستؤدي إلى شيء غير تشجيع مخططي الحرب على المضي قدماً في هذا الأمر الذي لا جدوى ترجى منه؟ ثم هل يستطيع أي أحد أن يعتقد حقا أن المنطقة ستصبح، في نهاية جولة مدمرة أخرى من الأعمال الحربية، أكثر استعدادا لقبول مبادرة دبلوماسية إيجابية مقارنةً مع أي من الحروب الماضية أو اليوم؟
إن حرباً أخرى ستوفر السلام؛ وإن مزيداً من الأسلحة التي لا تعمل إلا على استفزاز جارك الخطير والأفضل تسليحاً وغير المقيد سيجعلك آمنا؛ وإن السياسة السيئة التي تُسن تحت ضغط الحياة السياسية الداخلية ستُنتج أي شيء غير النتائج السيئة… هذه هي الأوهام الخطيرة التي يعمل تحتها الجميع منذ عقود، ومازالوا على ما يبدو.
Leave a Reply