ظن كثيرون أن السيد حسن نصر الله، سيكشف في مؤتمره الصحفي الأخير قتلة الرئيس رفيق الحريري بالوقائع والاثباتات. لم يحدث ذلك. والسيد نصر الله لم يتعهد بذلك في الأصل. لكنه قدم مرافعة مدعومة بالـ”قرائن” و”المعطيات” التي تحتم على محكمة دولية يفترض أن تتمتع بأعلى مستويات النزاهة والاحتراف ألا تقصر ظنونها على طرف واحد وتتجاهل الطرف الأكثر عبثا بالأمن اللبناني اغتيالات وتفجيرات وحروبا محدودة وشاملة منذ نهاية ستينات القرن الماضي. وهو الطرف الذي ظل محتلا لأرض لبنانية طيلة ربع قرن وأسس جيشا عميلا تحت إمرته، وتبين بعد اندحاره عن الأرض اللبنانية أنه قد خلف وراءه جيشا من العملاء والجواسيس يعدون بالمئات ويخشى أنهم يشكلون نسبة مئوية من عدد السكان!..
إن الصدقية التي برهن عنها نصر الله لا تكمن فقط بـ”القرائن” التي قدمها والتي أظهرت من خلال الشرائط المصورة أن “حزب الله” قد حقق إنجازا أمنيا لم تسبقه اليه كل الجيوش العربية في الحروب الأمنية والعسكرية التي خاضتها ضد اسرائيل. بل أيضا في تحفظه عن اعتبارها أدلة أو اثباتات قطعية في جريمة الاغتيال التي تجري محاولات لإلصاقها بـ”حزب الله”.
ليس تمكن المقاومة من اختراق وسائل الرصد الجوي الاسرائيلي المتطورة والمعقدة بمسألة هينة بالنسبة لتنظيم مقاتل. وها هي عائلات قتلى كمين أنصارية من وحدة الكوماندوس البحري، تتحرك مواجعها على أبنائها القتلى من الجنود وترفع الصوت مجددا لمحاسبة المقصرين في تلك الفضيحة الأمنية التي طالت غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي وأدت الى مجزرة في صفوف الجنود الذين نزلوا على الشاطئ اللبناني لتنفيذ اعتداء على أحد الأهداف في تلك المنطقة، قبل أن تقع في كمين المقاومة الذي قضى على معظم أفراد الوحدة، قبل أن تصل إلى هدفها، وترك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تجرجر أذيال الفشل والخيبة، مما زاد من اقتناع المؤسسة السياسية بضرورة مغادرة المستنقع اللبناني بعد ذلك بنحو ثلاث سنوات.
ولا يختلف اثنان أن قرائن السيد نصر الله تكفي لاثبات نقطة ضعف أساسية في عمل المحكمة تتمثل في استبعاد فرضية قيام اسرائيل بتنفيذ الجريمة بما لديها من طاقات وقدرات على تنفيذ هذا النوع من الاغتيالات.
وتندرج قرائن “حزب الله” دائما في اطار قراءة سياسية قام ناشر صحيفة “السفير” البيروتية طلال سلمان بتكرارها في أول سؤال في المؤتمر الصحفي يوجه الى الأمين العام لـ”حزب الله” ومفادها أن عملية الاغتيال حصلت في سياق سياسي وأمني وعسكري أميركي–اسرائيلي للضغط على سوريا من أجل التعاون مع الاحتلال الأميركي للعراق ووقف أنشطة المتسللين الأصوليين عبر الأراضي السورية لاستهداف قوات الاحتلال الأميركية في السنوات التي تلت الغزو الأميركي للعراق. ويحضر هنا دفتر الشروط الذي حمله وزير الخارجية الأميركي في عهد ادارة الرئيس بوش الابن الجنرال كولن باول إلى القيادة السورية، قبل استصدار القرار 1559 الذي دعا الى انسحاب الجيش السوري من لبنان، والذي اتهم الرئيس رفيق الحريري بالعمل على استصداره. ويعتقد أصحاب تلك القراءة أن المصلحة الأميركية–الإسرائيلية في استكمال الهيمنة على المنطقة قضت بإحداث زلزال من نوع اغتيال الحريري، وبالتالي خروج الجيش السوري من لبنان تحت وطأة القرار 1559 وضغط الشارع اللبناني الذي اندرج ضمن ما أطلقت عليه ادارة الرئيس بوش “ثورة الأرز”.
وهذا المقلب من القراءة السياسية هو الوجه الآخر لتوجيه تهمة الاغتيال حصريا طيلة السنوات الماضية الى النظام السوري. ورغم أن القرائن والمعطيات التي قدمها السيد نصر الله في مؤتمره الصحفي لم تستوف كل شروط الدقة والاكتمال المطلوبة لإدانة إسرائيل بالجريمة بشكل لا يقبل اللبس إلا أن “ولي الدم” الرئيس سعد الحريري تلقفها وكان صريحا وجريئا في اعتبارها أكثر من كافية ليشمل التحقيق الطرف الاسرائيلي الذي عليه أن يتعاون مع لجنة التحقيق الدولية، والا اعتبر مدانا، وفق تأكيد الحريري في تعليقه على مضمون المؤتمر الصحفي للسيد نصرالله.
هكذا، لاقى ابن الشهيد الحريري، في حرصه على لجم الفتنة السنية-الشيعية، الحرص الذي لم يزل السيد نصرالله يبديه وينبه من خلاله من مغبة جر البلاد الى تلك الفتنة، التي يمكن توقع اندلاعها، الا أن مآلها يصب في أكثر التوقعات تشاؤما والتي ستبدو معها “حرب الجمل” مجرد “لعب عيال”، وفق توصيف الباحث والمفكر اللبناني أحمد بيضون قبل نحو ثلاث سنوات في ورقة قدمها في أحد المنتديات الفكرية تحت عنوان “أشياع السنة وأسنان الشيعة، كيف حل بلبنان هذا البلاء؟”.
وهذا “البلاء” الذي من شأن الفتنة أن تحمله الى البلد الصغير غير القادر بعد على تحمله، هو في أساس التقاء “محور سين-سين” الذي ظل رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري يحدث فيه حتى أتاه الملك والرئيس على متن طائرة واحدة فأدخل الى قلبه الطمأنينة التي ظل يبحث عنها يوميا خلال سنوات الأزمة الخمس، وبدا في الأمس القريب غير “عابئ” بتداعيات المرحلة على أصداء القرار الظني المتوقع صدوره في الخريف القادم، مختارا مرة أخرى فضيلة الصوم عن الكلام، ليس ليأس من مجريات الأمور مثلما كان الحال عند صومه الأول، بل على الأرجح لاطمئنانه الى مغزى وفحوى المصالحة السعودية-السورية الذي كان من نتائجها المباشرة الإطاحة بالسيناريو المرتكز على اتهام النظام السوري.
ولم يكن بلا مغزى اقدام السيد حسن نصر الله على تأجيل “الجرعة المعلوماتية الأكثر خطورة” في سلسلة مؤتمراته الصحفية الى ما بعد الزيارة الملكية-الرئاسية الى بيروت، واستعادة البلاد من أجواء مكفهرة كانت تنذر بشر مستطير في كل لحظة، مع تواتر التسريبات عن ضلوع عناصر من “حزب الله” في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
أما السيناريو البديل الذي وضعه السيد نصر الله بخصوص جريمة اغتيال الرئيس الحريري فمن شأنه، على ضوء التدخل الاقليمي الذي حقن الشرايين اللبنانية المتوترة بجرعة مهدئة، أن يخدم استمرار التهدئة عبر قناتين متعارضتين: الأولى هي العمل على توجيه التحقيق الدولي نحو اتجاه جديد يطال بالظن اسرائيل ويفرض وضع القرائن التي قدمها نصر الله على طاولة التحقيق، عبر السلطة اللبنانية التي ألمح نصر الله الى عدم ممانعته في قيامها بدور الجسر بين “حزب الله” والمحكمة الدولية، مبقيا بذلك نافذة مفتوحة أمام امكانية التعامل مع المحكمة التي وصفها بـ”الاسرائيلية” إثر تلقيه معلومات متقاطعة مع المعلومات الاسرائيلية عن اتجاه القرار الظني نحو عناصر من “حزب الله”.
والقناة الثانية التي مهد مؤتمر نصر الله الطريق أمامها تقدم لمن يرغب في التعاون من أجل إبعاد كأس الفتنة، مخرجا “منطقيا” من أزمة القرار الظني التي بدأت بالالتفاف على عنق البلاد بكل أطيافها السياسية والمذهبية، وهذا السيناريو رغم عدم انطوائه على “الحقيقة” وعدم بعده عن “التسييس” إلا أنه مسيس بامتياز بما يخدم وحدة البلاد المهددة بمزيد من التشرذم والتشظي. لكن السيناريوهات المتداولة للخروج من ورطة القرار الظني بالمظلة العربية والاقليمية تبقى بحاجة الى مباركة أميركية-أوروبية لم تزل غائبة و”صمت” اسرائيلي عن تمريرها في ظل ازدياد الخشية من اقدام اسرائيل على جر ادارة الرئيس أوباما الى حرب خاطفة قد تشنها ضد ايران و”حزب الله”، وهو ما يعمل الرئيس الأميركي على تجنبه، بالحيلة حينا، وبالضغط حينا آخر، على حكومة نتنياهو التي لا تعدم جهدا للتملص من التزامها أمام الادارة الأميركية السابقة والحالية بحل الدولتين. ومع دخول الإدارة الأميركية في مرحلة الانتخابات النصفية للكونغرس، تزداد الخشية من نجاح الحكومة الاسرائيلية في شل وسائل الضغط الأميركية عليها ومن استدراج الادارة الى حرب تختار توقيتها وأهدافها، ولا تستطيع ادارة أوباما حيالها ترك اسرائيل وحيدة في حرب يجمع المراقبون على كارثية نتائجها على المنطقة الأكثر حساسية للمصالح الاستراتيجية الأميركية والأوروبية.
في كل الأحوال يبقى لبنان كمن يسير على حبل مشدود وأي اهتزاز للأوضاع الاقليمية يعرضه للسقوط، اما في جحيم الفتنة الداخلية أو جحيم حرب تبدو اسرائيل مصممة على خوضها وكانت على وشك الوقوع بعد “اشتباك الشجرة” الحدودي الذي نجا بعده لبنان من فخ اسرائيلي سيتكرر نصبه في أي لحظة.
Leave a Reply