أشار أحد اصحاب المحال التجارية في منطقة برج أبي حيدر بيده نحو مقلاة ضخمة لقلي الحلويات الرمضانية، وهو يجيب على سؤال المراسل التلفزيوني الذي جاء لاستطلاع ردود الفعل غداة الاشتباكات العنيفة التي شهدتها المنطقة بين عناصر من “حزب الله” و”حركة أمل” من جهة وعناصر من “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية” (الأحباش) وأسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المتقاتلين، وعن دمار وأضرار في الممتلكات أعاد التذكير بأحداث العنف التي شهدتها تلك المناطق في أيار من العام 2007.. أشار إلى المقلاة التي يغلي في جوفها الزيت مجيبا عن سؤال المراسل: “هكذا هوالوضع”!
لم يكن الأمر يتطلب توصيفا أكثر فصاحة من إجابة المواطن الذي استعان بمشهد غليان الزيت فوق النار للتعبير عن مخاوفه وانطباعاته حول الوضع الأمني والنفسي الذي يعيشه مواطنو تلك المناطق.
في الأثناء كانت تصريحات المسؤولين والناطقين باسم التنظيمات المتقاتلة تتوالى عبر الشاشات للتأكيد على أن ما جرى لا يعدو كونه “حادثا منعزلا” اندلع لأسباب “تافهة” وبدأ بخلاف حول ركن سيارة أمام أحد المقار في المنطقة.
“حادث منعزل” استخدمت فيه مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وتخلله عمليات خطف وإحراق لمحال تجارية ومقار ولعشرات السيارات والأبنية، ودام أكثر من ثلاث ساعات، لم يتسن خلالها لقوى الجيش اللبناني أن تفصل بين المتقاتلين “الحلفاء” إلا بعدما تلقت قيادته إشارة من قيادات المتقاتلين إثر ارفضاض اجتماع لممثلين عن قياداتهم مع مسؤول عسكري لبناني!
هنا كان بامكان الصائمين من مختلف الأطياف المذهبية الذين يتقاسمون الشوارع والأبنية أن “يطمئنوا” الى أن بامكانهم العودة الى منازلهم التي نزحوا عنها قبل آذان المغرب ولحظة الإفطار وأولئك الذين منعتهم الاشتباكات من تناول إفطارهم بعد يوم صيام طويل أن يتناولوا خبزهم وماءهم على صدى البيان التقليدي لقيادة الجيش الذي أكد على “عدم التهاون مع العابثين بالأمن”!
ما يفوت قيادة الجيش اللبناني ووزير الدفاع الذي سارع الى اصدار قرار بتجميد رخص حمل السلاح على الأراضي اللبنانية، عدا استثناءات قليلة، وما يفوت الناطقين باسم التنظيمات المتقاتلة أن اللبنانيين باتوا محصنين ضد هذا البث المستنفذ من التصريحات المستنسخة تشهد على ذلك دماء أبنائهم التي تسيل دونما سابق انذار أو توقع، وخراب ممتلكاتهم وخسران أرزاقهم في لحظة غضب “وسوء تصرف” حيال معالجة إشكال من نوع ركن سيارة أمام مبنى!
بعض المسؤولين الحزبيين تغريهم لغة التخفيف من حجم الأذى الذي يلحقه وجود السلاح بين أظهر الناس والذي لم تعد له وظيفة، على ما يظهر، سوى إحياء حفلات الترويع وسفك الدماء بين أبناء الدين الواحد (والصف الواحد) ولا ضير لو كان الشهر أحد الأشهر الحرم. أما الاعلام اللبناني الذي تحول بدور ه الى غابة من التحريض والتحريف اللذين لا وازع مهنيا لهما، فإنه يلجأ الى مواكبة الاقتتال بالتطبيل والتزمير وتفجير القنابل الدخانية للتعمية على الحقائق المرة لصراع كان ولايزال جمرا تحت رماد الخلافات والانشطارات الوطنية والطائفية والمذهبية التي لاعاصم لها في بلد الأرز التي تظلله حكومة “وفاق وطني” وتضلل أهله أحاديث “العمل على وأد الفتنة”!
وللمرء أن يسال ماذا لو لم يكن الخلاف الذي أنتج جولة العنف الدموية الأخيرة على ركن سيارة بين عناصر من تنظيمين حليفين؟
لقد بات من العبث أن يعبث القيمون على حَمَلة السلاح في الشوارع والبيوت والمحلات بعقول الناس بعد العبث بأرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم. وأصبح من الضروري الى حد الخطورة أن يطرح هؤلاء على أنفسهم سؤالا عن جدوى انتشار السلاح في المناطق السكنية وأن يقدموا تفسيرات مقنعة للذين يطالبون بومضة نور من كهرباء وجرعة ماء للشفة وحبة دواء لعلاج مريض، أو بفرصة عمل لسد عوز، ما هي مشاريعهم لهؤلاء الناس والى أين يسيرون بمصائرهم.
فهل يمتلك القادة والزعماء جرأة الاعلان بأن الأسباب والظروف التي يتحركون وفقها باتت لا تخدم لأي منهم قضية اذا بقي هنالك من قضايا لم يكفر بها اللبنانيون بعد عقود من الصراعات والاضطربات لم تترك لهم متنفسا للعيش مثل سائر الشعوب في هدوء واستقرار وأمان؟
ثم كيف يفسر المتحدثون والناطقون باسم التنظيمين “الحليفين”. الكلام المتناقض الصادر عنهم، مرة عن عدم وجود أي خلفيات للعنف الدموي الذي ينخرطون فيه، ومرة أخرى عن “التعرض لاعتداء مدبر” على لسان هذا الطرف، وعن “الغدر” والسيناريوهات والبروفات على لسان الطرف الآخر؟
أما العودة الى “اللجان الأمنية المشتركة” السيئة الذكر، خلال الحرب الأهلية، فهي اشارة غير مطمئنة وتحمل في طياتها تبشيرا بأننا لم نزل حيث كنا، وأن خروجنا من الحرب إن هو الا برق خلب، وأن الدولة التي يزعم الكل حرصهم على قيامها ليست قائمة الا في اذهان السذج ممن يصدقون القابضين على “مؤسسة” الشارع الأقوى بما لا يقاس من مؤسسة الدولة الممنوع قيامها بارادات لا قرابة بينها وبين جيش المتحدثين والمحللين والمنظرين الذين يحتلون الشاشات في لحظات، ويشرعون في جلد المشاهدين بنظرياتهم المستهلكة والمتآكلة عن “المؤامرة” و”المتآمرين” و”الطابور الخامس” وما الى ذلك من مفردات لم تعد “تهضمها” الأسماع.
نعم هنالك جو من الفتنة، صنعه اللبنانيون بأياديهم واضطروا “صاغرين” في محطة من محطاتها أن يستقلوا الطائرة الى احدى عواصم الخليج المزدهرة بالنفط والدبلوماسية غير المقيدة بأرساف “العمالة” للعدو، وهنالك بلد “مقلاة” تغلي في جوفه الغرائز، ولا يوجد استعداد لدى الممسكين بمصيره للتفكر والتعقل واستخلاص العبر من كوارث الماضي وفظاعاته التي لم تنجُ منها طائفة ولم يسلم منها فريق.
أما آن الأوان ليقف كل القادة والمسؤولين وقفة تأمل ويصغوا لصوت من ضمير رأفة بلبنان وأهله من كل الطوائف والمذاهب، أم أن الفتنة باتت تطوق أعناقهم وتكبل تفكيرهم وصاروا ينتظرونها انتظار العجزة والمشلولين أمام ما يحاك ويخطط في الغرف السوداء لهذا الوطن الصغير الذي لن يلقوا حضنا بديلا له اذا أمعنوا في استسلامهم أمام ارادة ابقائه مساحة مفتوحة لامتصاص كل الأزمات والصراعات؟
وطالما أن المتذابحين على موقف سيارة جميعهم من مريدي علي بن أبي طالب وله في نفوسهم مكانة ومكان لم لا يصغون الى حكمته الأثيرة:
“كونوا في الفتنة كابن اللبون، لاضرع فيحلب ولا ظهر فيركب”
وطالما أنهم جميعهم من أتباع دين النبي العربي فليتهم يرتدعون بحديثه الشريف “الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها”!
Leave a Reply