الحديث عن سماحة الإمام السيد موسى الصدر يطول ولا ينضب بحيث نحار من أين نبدأ. هل ندخل في مسيرته المتنورة منذ أن بدأ رحلة الفكر والعلم وإستشراف المستقبل؟ أم نلج في بحر قيادته وريادته السياسية والثقافية والجهادية؟ أم نغوص في لجة ثورته البيضاء التغييرية الإنمائية الفكرية الشاملة؟
نبدأ من حيث قرر سماحة الإمام الهجرة من بلده بالتبنّي، إيران، إلى بلد آبائه وأجداده لبنان، ذلك أنه ينحدر من عائلة طاهرة شريفة أصلها من منطقة شحور-معركة في أرض ابي ذر الغفاري الجليل في جبل عامل الأشم. فقد ودع سماحته والدته الكريمة وعيناها مغرورقتان بالدموع على فراق الحبيب لكنها في قرارة نفسها كانت مطمئنة إلى أن الإمام لم يكن ملك عائلته فحسب، بل كان ملكاً للأمة جمعاء وكان دوره أكبر من قدره وبالتالي لم يكن الحيز الزمني والمكاني ليحد من إمكاناته. هاجر، سماحته، إلى الله سبحانه وتعالى فحمل إيمانه الوضاح في حقيبة الجسد ويمم شطر عصر موسى الصدر وحقبة النضال والجهاد الأكبر.
لقد تمكن سماحة الإمام الصدر في مدة زمنية قصيرة جداً، من إحداث إنقلابٍ هائل في المفاهيم الدينية والسياسية والإجتماعية والفكرية والإقتصادية فرفع شعبه ووطنه إلى أعلى مصاف. الإنجاز الإستراتيجي الأول الذي حققه الإمام الصدر هو أن جعل لبنان وطناً نهائياً للطائفة الشيعية التي عانت عبر التاريخ من الإضطهاد والتعسف.
وحتى بعد تكوين “شبه الوطن” كانت الطائفة الشيعية مع باقي الطوائف المسيحية في الجنوب والشمال، مهمشة لأن تاريخ لبنان كان فقط يتمحور حول جبل لبنان والوسط من دون الأطراف. ثم جاء “ما يسمى” الميثاق الوطني الذي كان شراكة بين طرفين من دون باقي الفئات، على تقاسم الجبنة لوحدهما دون غيرهما. “أجاد” هذا الشعب ما اصابه من مجازر وقتل وتهجير ديمغرافي وهو لو تبرأ من كهذا وطن جاحد (إلى يومنا هذا) لكان تبرؤه مفهوماً. إلا أن الإمام حمل شعبه على تخطي بحر الدماء والعذاب إلى تبوأ دور حمايته والدفاع عنه كوطن أبدي، في وقتٍ صنع زبانية الكيانية لبنان صنماً من تمر وحين جاعوا أكلوه.
الإنجاز الثاني أن الإمام الصدر نشل لبنان، الذي أراده الإستعمار كياناً عنصرياً يحاكي الكيان الجديد في فلسطين، إلى بلد حضاري تسوده صيغة التعايش والحوار الحضاري بين الأديان والثقافات لا صراع الأديان والحضارات. كما حول تعددية المذاهب والأديان من نقمة شهدناها في الحروب الدينية في أوروبا، إلى نعمة لا يراها إلا الأصحاء لا الذين نخرت عظامهم سوسة الطائفية السياسية.
الإنجاز الثالث، هو أنه كان المؤسس لعصر الممانعة والمقاومة ضد كل ما يعيق تطور الأنسان وضد البغي والظلم والعدوان، بعد تقاعس النظام وجبنه. لقد كان الإمام الصدر نظيف الكف، فلم يكدس الأموال ولم يبن ممالك خاصة، بل كان ديدنه خدمة شعبه من كل الطوائف.
يستحق الإمام الصدر أن يستنفر العالم لأجله وتؤلف محاكم دولية لمعرفة مصيره في ليبيا، لأنه من خلال إشراقة فكره الثاقب واستشرافه (وهو القائل إذا بقيت حرب لبنان سينهار الإتحاد السوفياتي،) ومقاربته للأمور الدينية والدنيوية، وإجتهاده المبكر منذ كان يبلغ 15 عاماً وتنوره وإبداعه وعلمه، عمل على بناء البشر قبل الحجر وصنع المعجزات. لقد آمن أن أسرع طريق إلى الخالق هو خدمة المخلوق- الإنسان. الإمام الصدر أمة في رجل، أعاده الله سالماً معافى إلى ساحة جهاده التي تفتقده كثيراً خصوصاً في هذه الأيام العصيبة.
Leave a Reply