منذ اللحظة الأولى لوقوع جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت غرفة عمليات سياسية–إعلامية– أمنية، جاهزة بإشراف أميركي أدارها مساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط والسفير السابق في لبنان، ديفيد ساترفيلد، حيث أعدت كل العدة لمواكبة هذا الحدث، الذي وصفه البعض بـ”الزلزال”، كانت الإدارة الاميركية السابقة برئاسة جورج بوش بحاجة إليه، من اجل تنفيذ القرار 1559، وهو ما اعترف به مؤخراً النائب وليد جنبلاط الذي قال “ان اغتيال الحريري عجّل في خروج القوات السورية من لبنان”.
فالمستفيد من الاغتيال كما هو واضح، هو من أراد تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر في 2 أيلول 2004، وهو من صناعة أميركية–فرنسية، نال موافقة الرئيسين الاميركي بوش والفرنسي جاك شيراك، وكان كل منهما له مصلحة فيه، ومن اجل مصالح اسرائيل وأمنها، والتي كانت هي الأكثر استفادة من اغتيال الحريري، لان من هذه الجريمة تشعل فتنة مذهبية تودي بسلاح المقاومة الى الداخل اللبناني، وتحوله من سلاح مقاوم الى ميليشيا فتتشوه صورة المقاومة التي دفعت أميركا حوالي 500 مليون دولار من اجل هذا العمل.
وكان الاتهام الاول الذي صدر بعد اقل من ساعتين على حصول عملية تفجير موكب الحريري، توجه الى سوريا ونظامها الأمني والعسكري في لبنان، بالتعاون مع النظام الأمني اللبناني، وهو صدر من قريطم حيث اجتمع ما سمي آنذاك بـ”لقاء البريستول”، ووجهوا الأصابع نحو سوريا وقيادتها، وبدأت تتسرب معلومات كانت أشيعت قبل، من ان الحريري تلقى تهديداً من الرئيس بشار الأسد بـ”تكسير لبنان على رأسه” إذا لم يقبل بالتمديد للرئيس اميل لحود، حيث استخدمت هذه العبارة مع اخرى تم ترويجها أيضا، بان العميد رستم غزالي وكان رئيساً لجهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية، هدد أيضا الحريري ووضع المسدس في رأسه أو صدره.
هذه الشائعات التي أطلقت قبل وبعد اغتيال الحريري، كان القصد منها الضغط على سوريا التي تلقت عقوبات أميركية، ومحاولات غربية لمحاصرتها، للتجاوب مع المطالب الاميركية في العراق، والشروط الإسرائيلية بنزع سلاح المقاومة في لبنان وفلسطين، إلا ان الرئيس الأسد رفض الخضوع للاملاءات الأميركية–الإسرائيلية، فكان اغتيال الحريري، إحدى أدوات الضغط، والاتهام الفوري من قبل قوى ما سمي بـ”14 آذار” من ان سوريا رئيساً ونظاماً متورطة في الاغتيال، بالتعاون والتنسيق مع حلفائها في لبنان، بدءاً من رئيس الجمهورية اميل لحود، الى حكومة الرئيس عمر كرامي آنذاك والوزراء التي فيها، وقد تشكلت للتصدي لقرار الفتنة 1559، إضافة الى الجهاز الأمني اللبناني.
ومن اجل إثبات تورط سوريا وشركائها أو حلفائها في لبنان لمن دبّر اغتيال الحريري، وحاول الاستفادة من التباين بينه وبين الرئيس الأسد في موضوع التمديد للحود والذي وافق عليه رئيس الحكومة لاحقا لانه لا يريد ان يعاكس رأي وقرار سوريا طالما تراه استراتيجياً، لرد الضغط الاميركي عنها، كان لا بدّ من ان يؤتى بشهود من اجل ان ينطقوا بشهادات تؤكد على هذا التورط، فتم التعرف على الشاهد محمد زهير الصديق، الذي كان يتردد على بعض مراكز المخابرات السورية، وكان يعرف احد الضباط عبد الكريم عباس الذي حضر الى لبنان للاشتراك في دورة في كلية الأركان التابعة للجيش اللبناني، وسكن في شقة بحي معوض في الضاحية الجنوبية، كما ان الصديق متزوج من امرأة من آل الغصيني من بعقلين، وقدم نفسه على انه ضابط برتبة نقيب في الحرس الجمهوري السوري.
هذه المعلومات التي وصلت عن الصديق الى أطراف في 14 آذار تلقفها شخصيات سياسية منها الى رئيس جهاز امني يعمل مع “تيار المستقبل” الى ضابط امني سابق، واحد الإعلاميين فتقرر الاستفادة من هذا “الصيد الثمين” على انه الشاهد الملك الذي جيء به الى لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس، ليدلي بمعلومات جرت فبركتها بان الصديق وهو ضابط امن سوري حضر اجتماعات في القصر الجمهوري في سوريا، وأخرى في شقة بحي معوض وفي منزله بخلده، جرى خلالها الإعداد والتحضير لعملية اغتيال الحريري، وسمى من شارك في الاجتماعات وذكر أسماء الضباط اللبنانيين الأربعة: جميل السيد، علي الحاج، ريمون عازار، ومصطفى حمدان، إضافة الى اللواء رستم غزالي وعبد الكريم عباس وآخرين، ووصل به الأمر الى ان يذكر اسم الرئيس الأسد وشقيقه ماهر وصهره اللواء آصف شوكت، كما اقر انه شاهد سيارة “الميتسوبيتشي” في مخيم تدريب في الزبداني حيث تم تفخيخها ونقلت الى مركز امني سوري في حمانا ثم الى بيروت حيث تم تفجيرها.
شهادة الصديق أو إفادته أمام ميليس، كانت كافية لتوقيف الضباط الأربعة الذين رفعت صورهم مع ضباط سوريين بعد ساعات قليلة من اغتيال الحريري، على أنهم منفذو الجريمة وقد بدأت تنسج الروايات حولها، ويزج بأسماء مسؤولين لبنانيين وسوريين، واستدعت لجنة التحقيق الدولية الكثير من الشخصيات والمسؤولين الى مقرها في “المونتيفردي” في لبنان و”المونتي روزا” في سوريا، كما في فيينا حيث قصدها ضباط سوريون، وكانت في كل التحقيقات تسعى مع هؤلاء الأشخاص للاعتراف بان الرئيس الأسد كان على معرفة بالاغتيال ومثله الرئيس لحود، لكن لم تثبت التحقيقات صحة ما ذكره الصديق، الذي لم تتم مقابلته مع أي من المشتبه بهم سواء كانوا لبنانيين أو سوريين، بل تم تهريبه الى فرنسا التي خبأه رئيسها جاك شيراك، وأمّن له مأوى كما صرفت عليه جهات خارجية عربية وأجنبية إضافة الى قوى “14 آذار”، الأموال من اجل ان يبقى على مزاعمه التي سقطت فوراً، وانكشفت بعد ان تسربت معلومات ان الصديق ليس سوى منتحل صفة ضابط امن أو ضابط في الحرس الجمهوري السوري، وان معرفته بالضباط السوريين معرفة سطحية، ولم تكن له أية مهمة رسمية، بل كل ما كان يقوم به هو ابتزاز مواطنين تحت عنوان انه مسؤول امني سوري، وقد تقدمت بحقه شكاوى من قبل أشخاص قام بالاحتيال عليهم في لبنان وسوريا.
هذا الشاهد الملك، كان فريق “14 آذار”، يعتز به ويعتبره ويقدمه على انه سيوصل المجرمين حسب زعمهم الى المشانق والسجون، وقد بدأوا يرسمون سيناريوهات للمرحلة المقبلة، وقاموا بحملة “فل” للرئيس لحود، واعتقد البعض ان الرئيس الأسد سيكون خارج الحكم، كما ان قوى “8 آذار” ستذهب الى المحاكمة واستحقاق العقوبات المناسبة.
فرضت مزاعم الشاهد الزور الصديق الذي لاقاه ميليس بأكاذيبه أجواء من الترهيب، وقد تم استخدام وسائل الإعلام للترويج لما يقوله هذا الشاهد، وكانت تقارير ميليس تنشر في جريدة “المستقبل” من قبل فارس خشان، قبل ان تصل الى مجلس الأمن الدولي، حيث بدأت الثقة تتزعزع بالتحقيق، الذي أجراه المحقق الألماني، وتبين انه غير صحيح، بعد ان ظهر ان الشاهد الملك هو شاهد زور، وقد تصدى له من سجنه اللواء السيد، وساهمت وسائل إعلام في كشف حقيقته وشخصيته، مما أربك التحقيق الدولي، وتم استبدال ميليس بسيرج برامرتز بعد ظهور الارتكابات التي قام بها الاول، وما تسببت به في تضييع التحقيق والحقيقة، وانكشاف ما كان يتقاضاه من هدايا والحفلات التي تقام له للسير بالتحقيق وفق غايات سياسية، كان أبرزها إسقاط النظام الأمني اللبناني السابق وزج بقيادته في السجن، لحصول الانقلاب الذي سعت إليه إدارة بوش ونفذته في اغتيال الحريري لوضع يدها على لبنان والانطلاق منه نحو مشروع “الشرق الاوسط الجديد”، الذي يقوم على تجريد المنطقة من كل وسائل المقاومة وقدرات الممانعة، وسيطرة أميركية–إسرائيلية تدور في ملكها دول عربية معتدلة.
مع سقوط أول شهادة للصديق، بدأ التفتيش عن شهود آخرين من طينته، فكان هسام هسام الذي شهد في قضية اغتيال جورج حاوي، واعترف في مؤتمر صحافي ان فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي جنّده، بالتنسيق مع فارس خشان، ثم ظهر شاهد أخر ابراهيم ميشال جرجورة حول اغتيال الحريري، وقد نقضها عبر وسائل الإعلام، واشار الى من جنده كما برز شاهد اسمه شكيب مراد الذي شهد ضد اللواء علي الحاج، وانه كان حاضراً معه في مكتب اللواء غزالي قبل عام من اغتيال الحريري، وسمعهما يذكران انهما سيقومان بعملية تفجير دون ان يعلنا اسم الحريري.
وفي هذا السياق برز اسم شخص فلسطيني من آل عودة يعمل مع المخابرات الإسرائيلية، جاء يشهد ضد الضباط الأربعة ويتهم سوريا.
هذه النماذج من الشهود الزور، الذين تساقطوا مع التحقيق الدولي، وأسقطت المحكمة الدولية شهاداتهم، وأطلقت سراح الضباط الأربعة وأربعة من المدنيين اللبنانيين لبراءتهم، لم يتحرك القضاء اللبناني ضدهم، واحدهم الصديق المتهم من النيابة العامة التمييزية، بأنه مشارك في الاغتيال باعترافه هو، ولم تقبل فرنسا بتسليمه الى القضاء اللبناني لمحاكمته تحت حجة ان القانون اللبناني قد يطلب له الإعدام، حيث تم تهريبه من باريس الى الإمارات العربية المتحدة، وظهر مؤخراً في نيوزيرندا، ولم تتوقف جريدة “السياسة الكويتية” عن نقل مواقف له، مع كل تطور يحصل باتجاه تعرية شهود الزور، حيث أعلن في أخر تصريح له، بان ما أورده الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في مؤتمره الصحافي حول احتمال تورط اسرائيل باغتيال الحريري، ليس صحيحاً، وان من اغتاله هي سوريا وعناصر من “حزب الله” حيث تزامن تصريحه، مع قرار مجلس الوزراء تكليف وزير العدل إبراهيم نجار، متابعة ملف شهود الزور، بعد ان آثاره “حزب الله” واعتبره الأساس في عدم تسييس التحقيق، وان التغاضي عن شهود الزور الذين أضاعوا الحقيقة، من يقف وراءهم، وإذا لم تتم ملاحقتهم ومعرفة من حرضهم فان المحكمة الدولية تكون سقطت ولن يؤخذ بأي قرار ظني تصدره، لانه سيكون مبيناً على أكاذيب ومزاعم وشهود زور.
من هنا يتم التركيز على شهود الزور الذين سيكشفون من أخرجهم الى النور والضوء، وزج بهم، إذ ان شاهداً كالصديق ينتقل بحرية وينعم بالأموال، لا يمكن ان يكون غير مسنود الى دول، وقد ظهر من اعترافاته ان الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي امن له جوار سفر.
هذه المعطيات لا يمكن المرور عليها، وقد سعى اللواء السيد الحصول على إفادات هؤلاء الشهود من المحكمة وذهب الى لاهاي، وتكلم مع محاميه أكرم عازوري، وينتظر ان تبت بما قدمه، من اجل ان يتابع في دعاويه ضد شهود الزور في أكثر من بلد، إذ بمعرفة من يقف وراءهم ترسم خارطة طريق لمعرفة الحقيقة با غتيال الحريري.
Leave a Reply