رائحة القهوة تفوح في الهواء، والتين الحلو والليمون، والحلويات التي تذكر المارة بطفولتهم في بيروت ودمشق. تعج البازارات بالبسط المصنوعة يدوياً والمصابيح النحاسية. الرجال تعلو رؤوسهم الطرابيش، وقلة من النساء يرتدين الحجاب. ليسوا في بلد عربي.
على طول الشارع، تتوزع اللافتات التجارية بلغة ليست عربية: “رحّيم وملحمي” و”نور ومعلوف” و”سعادة وإخوانه”. هناك كانت توزّع صحيفة “الهدى”. هو حي “سوريا الصغيرة”، على بعد أمتار من المكان المثير للجدل، في نيويورك.
كان ذلك قبل عقود خلت. كان “مجتمعاً إسلامياً” قائماً بذاته، في المكان ذاته في جنوب غربي مدينة مانهاتن، حيث يستعر جدال حول أحقية المسلمين في بناء مركز “بيت قرطبة” الإسلامي، قريباً مما يعرف بـ”الأرض صفر” (غرواند زيرو)، حيث كان أيضاً برجا مركز التجارة العالمية.
كل هذه الذكريات غابت في ظل الجدل الدائر، فشارع “واشنطن” كان “قلب العالم العربي في نيويورك” كما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” في 1946، وذلك قبل فترة قصيرة من تشريد الجالية العربية – الأميركية كلياً بسبب بناء سلالم لمدخل نفق “بروكلين – باتري”.
“سوريا الصغيرة” كانت تقع جنوبي ما أصبح لاحقاً مركز التجارة العالمي، بينما “مسجد قرطبة”، فيما لو رأى النور، سيكون إلى شماله. أما المسلمون، وغالبيتهم كانوا من فلسطين فلم يتجاوزوا نسبة 5 بالمئة من سكان الحي. وكان السوريون واللبنانيون هناك غالبيتهم من المسيحيين.
استعادة تلك المشاهد القديمة والأصوات والروائح التي كانت تفوح من شارع “واشنطن”، تعد بمثابة تذكير، بأنه “في نيويورك، لا يحق لأحد ادّعاء ملكية أي جزء منها”، وفي جعبة التاريخ أمثلة عن “أشخاص غير متوقعين في أماكن هي أيضاً غير متوقعة”.
ووصف غريغوري أورفاليا في كتاب “العرب الأميركيون” شارع واشنطن بأنه “كان مقاطعة في العالم الجديد، حيث كان العرب أول من روج للبضائع، وصناعة الحلوى والعيش في مساكن، وعلقوا إشاراتهم الخاصة على محلاتهم”.
وعلى الرغم من أن الروايات التاريخية لم تذكر وجود مساجد في شارع واشنطن، ولكن كانت هناك ثلاث كنائس تخدم المسيحيين اللبنانيين والسوريين. ولا تزال كنيسة سانت جورج قائمة في الشارع، وربما تكون آخر المعالم المتبقية من “سوريا الصغيرة”.
ومن “سوريا الصغيرة” كانت انطلاقة الصحافة العربية في الشرق الأوسط كما كتبت “نيويورك تايمز” في 1948. من هناك “تم اعتماد جهاز تنضيد الحروف المطبعية باللغة العربية من قبل الأخوين نعوم وسلوم مكرزل في صحيفة الهدى”.
Leave a Reply