ديترويت، ديربورن – خاص “صدى الوطن”
شهدت الذكرى التاسعة لهجمات الحادي عشر من أيلول في العام 2001، جدلاً صاخباً ومناقشات حادة على امتداد الأراضي الأميركية، على خلفية بناء المركز الإسلامي في منطقة “غراوند زيرو” في مانهاتن في نيويورك. وتفاقمت الأمور مع اقتراب يوم ١١ أيلول، وتحولت الذكرى الاحتفالية من صلاة اعتيادية لسلام وراحة أرواح ضحايا البرجيين التجاريين، إلى لحظات توتر مفخخة ومشحونة بمشاعر الكراهية والتعصب، والتخويف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، خاصة مع إعلان القس تيري جونز عزمه على حرق نسخ من المصحف الشريف، في خطوة يراد منها تحميل الإسلام، كعقيدة وكثقافة، مسؤولية الهجمات الإرهابية التي نفذها متطرفون إسلاميون.
وطالت أجواء النقاش والجدل، قطاعات واسعة وشرائح اجتماعية ودينية وسياسية وأكاديمية وإعلامية، انقسم حولها المجتمع الأميركي بحدة، بين مؤيديين ومعارضين. وامتدت النقاشات حتى وصلت إلى أروقة البيت الأبيض، حيث أعلن الرئيس الأميركي تأييده الصريح لبناء المركز، ومشدداً في الوقت نفسه على القيم الأميركية التي تضمن حقوق التدين والتعبير.. وليكون موقف الرئيس سبباً إضافياً في تسعير الجدل والانقسام الدائرين، خاصة في وقت يسعى فيه الجمهوريون لاستعادة مواقعهم من خلال خطاب متشدد وقاس، حيث يتبنون موقفا مناقضا يرى فيه البعض محاولة لاستقطاب الأصوات لاسيما مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي.
وفي السياق ذاته، وكرد على دعوة وعزم القس جونز على حرق المصاحف، اتخذ المجتمع الديني في الولايات المتحدة موقفاً واضحاً وحازماً، حيث انبرى رجال دين من مختلف الأديان والطوائف إلى إدانة القس جونز وإلى كل من يبث رسائل التعصب والتطرف، والدعوة في مقابل ذلك إلى التسامح والتفهم واحترام العقائد.
في ميشيغن، وفي منطقة ديترويت الكبرى، حيث تقطن جالية عربية وإسلامية كبيرة، أطلقت العديد من المؤسسات العربية والدينية الإسلامية والمسيحية دعوات إلى إقامة الصلوات المشتركة على أرواح ضحايا تفجيرات الحادي عشر من أيلول، في إشارة واضحة إلى تضامن المسلمين والمسيحيين وإدانتهم موقف القس جونز، وتظهير موقفهم المشترك في مناهضة الكراهية والعنف والدعوة إلى إحلال السلام والتسامح.
وقد لبى الدعوة، مساء يوم الجمعة الماضي، العشرات من رجال الدين المسيحيين والمسلمين (واليهود الذين كان من المقرر أن يحضروا ولكنهم تخلفوا عن ذلك لانشغالهم باحتفالات رأس السنة اليهودية)، ومن جميع الطوائف، مع حشد كبير من المواطنين من مختلف الأعراق والديانات والخلفيات الثقافية تجاوز عددهم الألف شخص، الذين تلاقوا في كنيسة “ابنيزر الثاني” في مدينة ديترويت، حيث أقيمت صلوات مشتركة لراحة وسلام أرواح الذين قضوا في أحداث 11 أيلول.
وفي لقاء لـ”صدى الوطن” مع راعي كنيسة ابنيزر الثاني الأسقف إدغار فان، قال “لقد عقدنا اجتماعات مع رجال دين مسلمين ويهود ومسيحيين لإيجاد أرضية مشتركة لتقوية إيماننا والتعبير عنه”. أضاف “لقد اجتمعنا هنا .. لكي نناضل ضد الخوف والكراهية، فالإيمان يهزم الخوف والكره، ونحن هنا لنقول لا للعداء للمسلمين ولا للذين يسئيون فهم الإسلام”.
وتمنى رئيس “مجلس المنظمات الإسلامية” ومدير “مجلس منطقة ديترويت لحوار الأديان” فيكتور بيغ على وسائل الإعلام المتعددة أن تتجاهل دعوات القس جونز وعدم الاهتمام به أو نقل أخباره وتصريحاته.
وقال بيغ: “ليس لدينا أية مشكلة مع ما يعتقده الناس وليس لنا الحق بمناقشتهم بعقائدهم، ولكن بالإمكان إقامة مشروعات مشتركة، تمكن من التقاء الناس والتعرف على بعضهم البعض عن قرب، هكذا يكون التعارف والتواصل بين الناس، والنبي قال ما معناه: إن أفضلكم هم هؤلاء الذين يخدمون الناس”.
ونوه بيغ بأهمية اللقاء وقال “إنه عندما يجتمع الناس ويتواصلون كما هو الأمر الحاصل هنا، فهذا سيكون دليلا واضحا على أهمية الحوار وجدواه”.
كما اجتمع ما يزيد على 500 شخص في قاعة المركز الإسلامي في مدينة ديربورن مساء السبت الماضي، أضاؤوا الشموع بعد الاستماع إلى صلوات تلاها أكثر من عشرين رجل دين مسلم ومسيحي، ومن طوائف عديدة، وبلغات مختلفة، حيث توافدوا إلى المنصة الواحد تلو الآخر رافعين الصلوات التي اشتركت بطلب الراحة والسلام لأرواح ضحايا 11 أيلول وأرواح ضحايا الذين سقطوا جراء الحروب التي جاءت على أثر تلك الأحداث، وجلب السكينة والطمأنينة لعائلاتهم، ولنشر المحبة والسلام بين الناس. وكان ملاحظاً حضور العديد من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة.
ونوه إمام المركز الإسلامي السيد حسن القزويني بمكانة “السيد المسيح” (ع) في نفوس وقلوب المسلمين وأشار إلى أن القرآن الكريم ذكر اسم السيد المسيح مرات أكثر مما ذكر اسم النبي محمد (ص)، كما أن القرآن الكريم ذكر السيدة مريم العذراء التي يبجلها ويحترمها المسلمون، ولم يذكر اسم والدة النبي محمد. ودعا القزويني إلى التسامح الديني بين أتباع جميع الديانات، لأن الأديان نفسها تحض على هذا الشيء، فرسالة الأديان هي العدالة والمحبة والسلام، وليس الاحتراب والكراهية والعداوة، واستغرب القزويني في هذا السياق دعوات القس جونز إلى حرق نسخ من المصحف الشريف.
وقال القزويني “إن القاعدة لا تفرق بين المسلمين وبين غيرهم، وقد قتلت القاعدة من المسلمين أكثر مما قتلت من غير المسلمين”، وأشار إلى أنه كان هناك بين الضحايا الذين سقطوا في أحداث “11 ايلول” مسلمون أيضا.
وقال إمام “دار الحكمة الإسلامي” في ديربورن هايتس الشيخ محمد علي إلاهي “نحن هنا للصلاة على أرواح 3000 من الناس الأبرياء الذين سقطوا في هجمات 11 أيلول، والملايين من الأبرياء الذين فقدوا حياتهم في العراق وأفغانستان وباكستان”.
وأضاف “إننا نطلب لهم الرحمة بشجاعة والتزام بالالتقاء والاستماع لبعضنا البعض، باحترام متبادل، لدفع الحوار قدما إلى الأمام”.
وتلا الأب جورج شلهوب راعي كاتدرائية سانت ماري الأرثوذكسية في مدينة ليفونيا الصلاة باللغتين العربية والإنكليزية، وقال “يا الله باركنا ونحن نتذكر هؤلاء الضحايا، لعل ذكراهم تكون جسرا للتفهم والتسامح والحوار بين المسيحيين والمسلمين واليهود والهندوس”، وأشار الأب شلهوب إلى دعوة الكتاب المقدس ورسالته الأساسية بالمحبة، محبة جميع الناس. وأنهى صلاته بالقول: “يا رب بارك الناس الذين حولنا، من كانوا ومهما كانوا”.
وبعد الانتهاء من تلاوة الصلوات، قام رجال الدين بإشعال الشموع من شمعة كبيرة، ثم قاموا بالمرور على الحاضرين وإشعال شموعهم التي رفعت مضيئة الصالة الكبيرة، تذكاراً لأرواح الأبرياء الذين سقطوا في أحداث “11 أيلول” في الحروب التي نجمت عنها.
Leave a Reply