أبى أن ينقضي شهر أيلول هذه السنة، من دون أن يغيّب وجها حبيبا آخر معه. يكون الخبر حزينا عندما تسمع أن واحدا من أعز الناس، أعز الحبايب، غادر الحياة ليسكن في حفرة ضيقة مغطاة بالزهور وأغصان الصنوبر وأوراق “العيزقان” وروائح البخور، والتسليم بأن تلك الحفرة ستكون مسكنا نهائيا، لجسد طالما امتلأ بالحياة ولروح امتنهت المحبة والتسامح وتخطت الحدود على مدى أعوام عديدة وظلت تقاوم حتى النسمة الأخيرة في الحياة.
كثيرون من الناس يمرون في أيامنا مرورا عابرا. قليل منهم من يبقى في القلب وفي الذاكرة. أثرهم الجميل، كحبة المسك، يعطر الأفق الواسع ذكرهم كلما خطر في البال.
من هؤلاء الأحبة، كانت جارتي الحاجة أم حسن قرة علي سلامة. عندما دخلت السجن الزوجي، لم يتغير شيء. انتقلت من بيئة قاحلة معدومة الحنان والحب إلى جو آخر أشد صرامة وقحلا وفقرا. كنت فتاة صغيرة ومتمردة على مرارة الحياة والفقر والجهل والتقاليد البالية التي ينقلها جيل عن جيل، وكانت الحرب الأهلية المدمرة والقاضية على أحلام جيلنا الذي كان يصبو نحو العلم والنور.
من حسن تدابير القدر، وفي هذا الجو القاتم، أن تكون المرحومة الحاجة أم حسن سلامة، جارة لي. كانت مخلوقا لائقا بالحياة برغم كل ما في الحياة من صعوبات وأزمات. محبتها الغامرة لي. وفكرها الطيب ونبلها وخلقها. إيمانها وتقواها وتسامحها وكرمها الذي بلا حدود، كسر في نفسي التمرد وجعلني أتصالح مع نفسي ومع من حولي وعلمتني أن أبادر بالمحبة والعطاء والتسامح حتى لمن لا يستحق ذلك.
كانت رحمها الله، لا تشعرني إني جارتها فقط، ورغم فارق العمر بيني وبينها كنا كالأصدقاء نتشارك الهموم الكبيرة ونسعى لحلحلة القضايا البسيطة. وكانت الوجه المشرق ذو التبسم الدائم، الذي كنت أفتقده في أمي. وأنا هنا لا أنكر أنني كنت محظوظة برفقتها وصداقتها لسنوات عديدة. تعلمت منها أشياء كثييرة لم تعلمني إياها أمي أو أي سيدة أخرى من عائلتي. شجعتني وعلمتني أداء الصلاة بشكل صحيح وتلاوة آية الكرسي وبعض الأدعية التي لازالت أحفظها في قلبي كحرز يعينني على الصبر والتحمل.
ذكرياتي معها في قلبي غزيرة وصعبة والذي يعزيني أنها عاشت حياتها كما شاءت، في عزة وكرامة، ولم تقطع صلة الوصل مع أحد من حولها، وكان كرمها ومحبتها وتسامحها، المفتاح السحري لدخول قلوب الجميع، وعلامتها الفارقة التي لم يخطئها أحد.
وكما كانت تتمنى وهي التي لم تعرف الوحدة يوما أن ترحل بين أولادها ومحبيها، في قريتها وفي جنوبها، وهي لا شك الآن، ترقد في أطهر تراب. أدعو الرحمن الرحيم أن يجعل مثواها الجنة والى كل أولادها وأحبائها الكثيرين أحر العزاء.
Leave a Reply