التوترات التي شهدتها العلاقات اللبنانية-اللبنانية، واللبنانية-السورية في الأشهر القليلة الفائتة، والتي بلغت ذروتها بالتحذير الذي أطلقه النائب عن “حزب الله” نواف الموسوي بأن أي طرف لبناني يقبل بالقرار الظني الذي سيصدر عن المحكمة الدولية سيتم التعامل معه كأداة من أدوات الاجتياح الأميركي-الإسرائيلي للمقاومة، ثم مذكرات التوقيف بحق أعضاء من الفريقين السياسي والإعلامي لرئيس الحكومة سعد الحريري، التي أصدرها القضاء السوري، والمواقف الإعلامية النارية التي تبادلها طرفا الصراع المسيحي-المسيحي، الجنرال ميشال عون وسمير جعجع، وما بينها من مواقف، منها ما يتمسك بالمحكمة الدولية، وأخرى ترفضها وتدعو إلى إلغائها.. هذه التطورات جميعها وإن ظلت في الاطار الاعلامي-السياسي، إلا أنها تؤشر بقوة الى عودة لبنان إلى المربع الأول الذي كان يقف فيه عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط العام 2005.
بل إن ثمة مؤشرات مقلقة لدرجة أن بعض المراقبين يعيدون التذكير بالأجواء التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان العام 1975.
ومن هذه المؤشرات التباعد الذي أخذ يتسم بالتحدي بين مكونين أساسيين من مكونات الحد الأدنى للتضامن العربي، المتمثل بـ دمشق والقاهرة، واخفاق الرياض في رأب الصدع بين العاصمتين لتجنب التداعيات السياسية والأمنية التي كانت تنتج عن مثل هذا التباعد والتي ترجمت نفسها في الساحة اللبنانية أنهارا من الدماء في أواخر السبعينات، إثر خروج القاهرة عن “الصف العربي” وعقدها اتفاقية كامب دايفيد للسلام مع اسرائيل في العام 1979، التي حذر قبلها الرئيس المصري الراحل أنور السادات من أن بحرا من الدماء سيغرق به اللبنانيون، وكان أن توسعت “حرب السنتين بين العامين 75-76” الى حرب أهلية شاملة، دخلت على خطها المباشر اسرائيل بغزوها للبنان العام 1982 والوصول الى العاصمة بيروت.
الأسبوع الماضي، صدر عن القاهرة تحذير يشبه التحذير الذي أطلقه السادات قبل نحو 35 عاما، عندما حذرت “بأن فوق لبنان سحبا تتجمع منذ شهور وتنذر بعواقب وشرور وندعو أن يقي الله الشعب اللبناني الشقيق عواقبها وشرورها وان مصير الوفاق اللبناني وتعايش كافة طوائفه لا يصح أن يصبح رهينة لقرار ظني مهما كان محتواه”.
وإذا أضيف إلى هذه التطورات فشل المفاوضات السياسية المباشرة بين الاسرائيليين والفلسطينيين كما توحي تطوراتها الأخيرة، مع مواصلة اسرائيل لسياساتها الاستيطانية التوسعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مطلقة “رصاصة الرحمة” على الأمل الأميركي بتبلور “حل الدولتين” واتجاه اهتمام الادارة الأميركية نحو الانتخابات النصفية للكونغرس والتي تعد المعركة التمهيدية للانتخابات الرئاسية بعد عامين، فإن المنطقة الشرق أوسطية والعربية برمتها توضع أمام مخاطر انفجار شامل يمهد لإعادة ترتيب أوضاعها وموازين القوى فيها بالحديد والنار، في عود على بدء، لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وعدوان تموز العام 2006. وما بينهما من حروب ونزاعات اقليمية، امتدت من الخليج الى القرن الافريقي وآسيا الوسطى، سوى نماذج متكررة لمشروع واحد يقوم على تفتيت المنطقة واعادة رسم جذرية لتركيبتها الجيو-سياسية، بما يتلاءم مع مشروع الهيمنة الأميركية الغربية على مصادر الثروة.
وإذ دخلت أميركا وحلفاؤها الغربيون في حربين متتاليتين في منطقة الشرق الأوسط التي تدخل كل من أفغانستان وباكستان في جغرافيتهما السياسية، تشرف أميركا وحلفاؤها على تسليم بلدان محطمة كما في العراق وأفغانستان، وأخرى تنام على صفيح ساخن، كما باكستان، الى قوى إقليمية ومحلية متنازعة، ولم تعد الادارة الأميركية محرجة مثلاً في إجراء مفاوضات مع حركة طالبان الأفغانية وفصائل أفغانية أخرى مسلحة لإشراكها في السلطة، و”تتوافق” مع طهران على إعادة نوري المالكي الى رئاسة الحكومة الإيرانية، بعدما تكفلت طهران بإزالة الاعتراض السوري عليه، مكرسة بذلك نفوذا ايرانيا غير مسبوق في البلد العربي الذي يختزن ثروات نفطية هائلة، وبما يوحي بتناغم حل أخيرا محل العداء الشديد بين “ملائكة” طهران و”شياطين” واشنطن على حساب سيادة ووحدة أراضي دولة عربية وبرضى من النظام الاسلامي المعتدل في أنقرة التي يشاع أن التفاهمات الاقليمية الدولية ستمنحها شريطا أمنيا داخل الأراضي العراقية “للتصدي لهجمات حزب العمال الكردستاني”.
وفي حين تنبئ التطورات و”الاختراقات” على جبهة تشكيل الحكومة العراقية و”التوازنات” المذهبية والعرقية التي ستبنى عليها الحكومة العتيدة برئاسة المالكي أن هذه الحكومة لن تكون أكثر من واجهة لنفوذ جيران العراق من دول إقليميةوترجمة لمصالحها وأن الوحدة الجغرافية والسياسية للعراق باتت في دائرة التهديد الفعلي والشرعنة القانونية تحت مسميات “الأقاليم” جنوبا، وشمالا، ووسطا، وفي ظل خضوع العراق حتى الساعة لحالة احتلال “قانوني” بموجب الفصل السابع للأمم المتحدة، فإن حال لبنان ليست بأفضل وهو المقسم واقعيا منذ العام 2005 الى مناطق نفوذ مذهبية والمشرف في أية لحظة على نزاعات أهلية تطيح ليس فقط بـ”اتفاق الدوحة” الذي رد الطوائف والمذاهب عن أبواب الحرب الأهلية قبل عامين، لكنه لم يفلح في إعادتها الى مشروع دولة جامعة، بل يبدو أن “اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية مطلع التسعينات يترنح بشدة تحت وطأة الانقسامات الداخلية بما ينذر بترك اللبنانيين لأقدراهم، خارج أية “صيغة تعايش” ممكنة، بعد الآن.
وقد عبر وزير الخارجية العماني محمد بن علوي عن خطورة المنحى الذي تسلكه التطورات اللبنانية الدراماتيكية عندما تساءل عما يمكن فعله للبنانيين بعدما جند العرب والعالم طاقاته لإنقاذهم من أنفسهم وفرض اتفاق الدوحة عليهم، قائلا هل يتوقع اللبنانيون أن تحضر اليهم الملائكة في المرة القادمة لتسوية خلافاتهم؟
وربما لا يدرك اللبنانيون بمعظمهم، أن هذا العالم خال من الملائكة، وهم لا يزالون أسرى أوهام قديمة بأن العالم لا ينام اذا انقسموا واحتربوا وأن أسياد القرار في محيطهم الاقليمي وفي عواصم القرار الأبعد لا تأبه باقتتالهم ولا يرف لهم جفن أمام سفك دمائهم، طالما أن اقتتالهم بقي محصورا داخل مدنهم وشوارعهم وأحيائهم وأنهم لا يعدون كونهم ورقة يتجاذب الإمساك بها أطراف الصراع الاقليمي تحت وفوق طاولات التفاوض التي تحكمها مصالح الدول، ولا تقيم أدنى وزن لمصالح الشعوب.
فهل يعي اللبنانيون بأطيافهم كافة أن الولوغ في دماء بعضهم بعضا لن يؤدي إلا إلى غرق المركب الذي يتناحرون فوقه، دون أن ينتبهوا الى العاصفة المقبلة عليهم بسرعة وتهدد أشرعتهم بالتمزق؟ ألا يستمع اللبنانيون إلى الأصوات الاقليمية الفاعلة التي تعلن “أن المحكمة شأن لبناني” وأن الحل للأزمة المندلعة ينطلق من الداخل اللبناني أولا، وأن هذه الأصوات تتقاطع بين دمشق وطهران والرياض والقاهرة، وحتى لو كانت هذه الأصوات مجرد محاولات لنفض اليد وإراحة الضمير من دماء اللبنانيين التي ستجري أنهارا فلماذا لا “يصدق” اللبنانيون هذه الدعاوى، ويُقبلوا ولو لمرة واحدة في تاريخهم على انتفاضة على واقعهم الطائفي والمذهبي، ويحرجوا جميع اللاعبين بإرادتهم ليس في “عيش مشترك” بل في حياة واحدة بعدما ذاقوا على مدى عقود أهوال حروب الآخرين على أرضهم وبأجيالهم المتعاقبة، دون أن تتمكن طائفة منهم من الاستئثار بالحكم وفرض ارادتها على باقي الطوائف.
وهل أصبحت أرض لبنان خلوا من رجالات الدولة الذين أتقنوا في الماضي ادارة صراعاتهم وحلها كلما آذنت بتقسيمهم وشرذمتهم وسفك دمائهم.
وهل لم يعد لدى اللبنانيين، قادة سياسيين ورجال فكر، من قدرة على “الابداع” لحفظ وجود بلدهم على خارطة سياسية وجغرافية تهتز أسسها أمام أنظارهم؟
أم أن “الدعاء” قد يكون ملاذهم الأخير مثلما أوحى رئيس مجلسهم النيابي نبيه بري، منبها من “وضع البلد في عين الخطر”، وهو دعاء لن يكون بأي حال لرد القضاء المحيق بهم، بل اللطف فيه، اذا كان ثمة من لطف باق ينفعهم في مواصلة البقاء وسط هذا العرض المرعب لجنون الغرائز الذي نشهد فصوله كل يوم ويضع لبنان ليس فقط في “عين الخطر” بل في طور الاحتضار كدولة واحدة.
Leave a Reply