القول الساخر موهبة استثنائية تماما مثل موهبة الرسم والموسيقى وكتابة الشعر والرواية والغلاظة والسياسة. وهناك فرق بين الساخر الظريف المبدع والمتظارف السمج. فالظرافة مثل خفة الدم موهبة تكون أو لا تكون. والتظارف نوع من السماجة السامة، والقارئ أو المستمع، بوسعه أن يغفر للظريف أي رأي يطاله بالسخرية والنقد، أما المتظارف فلا يملك القارئ أو السامع له إلا الكره والنفور.
في احدى المرات، كتب برنارد شو “كلانا، مارك توين وأنا، يكتب بطريقة تجعل الذين كانوا سيشنقوننا بسبب قولها، يتوهمون أننا نمزح!”. قد تكون هذه الحقيقة، هي التي جعلت بعض الأقوال العربية تحاذر الدعوة إلى السخرية والمزاح خوفا من الترويج لروح التمرد ونقد السلطة العائلية. فقليل الأدب هو من يضحك بلا سبب، وإن كل ما لا يُضحك الأكبر سنا والأعلى سلطة يجب ألا يُضحك الآخرين. وقد حرص البعض من قديم الزمان على خلق واشاعة مناخ عام من النكد حرصا على الجدية وترك الهزل وعدم قول الغزل.
ثمة نمط من المزاح الساخر يشيع في الغرب على ألسنة الحيوانات ولا أدري لماذا لم يصل إلى بلاد العرب أوطاني، رغم أن لديهم كتاب “كليلة ودمنة” ذي المكانة الخاصة في التراث. ولقد قرأت مؤخرا حوارا طريفا بين الحشرة “المرعبة” أم أربع وأربعين حيث ذهبت وزوجها للتنزه في المدينة، فشاهدا اعلانا سينمائيا لنجمة بديعة الساقين: فقال الزوج: ما أبدع ساقيها!. فردت الزوجة: من المؤسف أنه ليس لها سوى ساقين فقط!
هذه “الأم أربع وأربعين” نفسها قالت لزوجها: لا تنتظرني على العشاء الليلة. سأتأخر، لأنني سأكون عند اختصاصية المانيكور لطلاء أظافري!
والحلزونة اللطيفة قالت لصديقها وهما يقطعان سكة القطار: أسرع.. لأن القطار سيصل بعد ساعتين!
السخرية المضحكة، مثل الحب، لا تعترف بقوانين السير ولا تعترف كثيرا بإشارات المرور. لكن في أحيان كثيرة، وحرصا على مشاعر الآخرين وذوقهم وكبريائهم خصوصا في جاليتنا، الخالية من النيكوتين والسكر، فمن الحذر يا عزيزي القارئ، أن لا تبذّر كلماتك وبسماتك، وقتّر قدر ما تستطيع في آرائك المصيبة وأكثر من آرائك المجيبة، واذا قرأت أو سمعت مقولات متظارفة ذات الثقل النوعي المرتفع، وفّر غيظك في صندوق مقفل أو في حساب بنكي لتوفير المشاعر الطيبة. ومثل النملة البخيلة تجنّب الدخول في حوارات “مليانة أو فاضية مش مهم” ولا تسارع في التبرع من خفة دمك وظرفك لمن لا يستحق.
الجالية في ديربورن، فيها الكثير من البخلاء. أكثر من بخلاء الجاحظ يملكون أرصدة ضخمة من النكد والهم والسطحية في حسابات سرية، لا أتمنى لأحد من الظرفاء والمبدعين أن يكون من وارثيهم
Leave a Reply