يهرب زياد الرحباني من بلاغات الشعر الشائعة، وتقنيات الموسيقى العربية. ويتجاوز امتحان الفنان الذي يتوجب عليه “قتل الأب” بنجاح، هذه المقولة السيكولوجية التي تبرر سلوك الفنانين في التمرد على القوانين امتثالاً وطاعة لطقوس الإبداع. “قتل الأب” الفني.. مقولة ذات معان ملتبسة في تجربة زياد الرحباني، كونها تمتلئ بأبعاد حقيقية، وليس مجرد مجازات.. تمليها “بلاغات” التحليل النفسي، أو تحليل التجربة الفنية.
يعني الكثير، ليس مجرد رصاصة طائشة، وليس مجرد صواب فادح، أن يخرج زياد الرحباني عن تجربة أبيه العملاق عاصي، والذهاب إلى مناطق بكر في صوت الأم- فيروز، التي بصوتها تم صياغة لبنان الأسطورة، لبنان المتعالي عن الواقع، لبنان المتخيل والمحلوم به. حتى جاء “الابن العاق” ليفتح لنا أبواب الشوارع والقرى والمدن.. والذهنية اللبنانية، في مسرحيات هجائية، فجة، ومؤلمة، وصاعقة.
بدا مشروع زياد الفني واضحاً منذ البداية، ومختلفاً ومتفردا.. وناشزاً إذا شئتم، فهذا العاشق لا يتغزل بعيون حبيبته على الطريقة التقليدية، وعكس ذلك يفضل ما يقوله الناس العاديون في أحاديثهم العابرة، بحسرة وشبق: “يخرب بيت عيونك يا عليا.. شو حلوين”. كلام نافر وغزل خارج السياق وغير معتاد..وبعد قليل يصبح كلاما شائعا وأغنية رائجة. كلام.. هو دليل على عبقرية ذلك الشاب الطائش والمتهور والشيوعي.. والذي كتب أولى قصائده، ومنذ كان في السادسة عشرة من عمره، في ديوان شعر حمل عنوان “صديقيَ الله”.
بعد ألبوم “وحدن” و”معرفتي فيك” جاء ألبومه “كيفك إنت” التي اعتبرها الشاعر محمد الماغوط في أحد أحاديثه الشائكة.. أهم من كل ما كتبه الشاعر البحتري، أحد أهم شعراء العصر العباسي. والنقلة التي أدركها زياد الرحباني..أن الشعر ليس هو الكلام الجميل والحلو والذي يطرب الأسماع. الشعر شيء آخر، لدرجة أن الكلام الحلو قد يقتل الشعر ويحوله إلى مجرد جثة من الشمع لا روح فيها ولا طعم لها. قليلون يدركون أن الشعر ينوجد في كل شيء مهما بدا جافا أو بشعا أو قبيحاً، وبمبالغة ماغوطية “الشعر يمكن أن يوجد حتى في الزبل”.
ورغم الانتقاد الكبير لمجموعة “كيفك إنت” إلا أنها الأكثر رواجاً وانتشاراً ليس بين أجيال الشباب بل حتى بين أولئك الذين حاربوا هذه الأغنية والذين اعتبروا أن زياد استغل صوت أمه، وخرب تجربتها، وأخذ الأغنية الفيروزية إلى المهزلة.
روعة زياد، أنه يأتي بأغانيَ وألحان صادمة تثير الخوف والريبة بالذائقة الشخصية، ولكنها بعد قليل تجعلنا ندرك قيمتها وعبقريتها. كل الألبومات الغنائية في العالم العربي “تخبط” عند نزولها إلى السوق، ثم تبدأ بالانحسار ويملها الناس ويعرضون عن سماعها. مئات الأغاني كسحت الأسواق وحققت الأرباح الهائلة ولكنها ماتت بعد عدة شهور ولم يعد يتذكرها أحد، على عكس أعمال زياد الرحباني، التي كلما كبرت صارت أحلى، ومعها يكبر حب الناس لها وولعهم بها يوما بعد يوم، فما هو السر، يا ترى؟
في الأيام الأخيرة تنتشر أغنية جديدة لفيروز وزياد بعنوان “قصة صغيرة كتير” ستكون واحدة من أغاني ألبوم جديد “إيه في أمل”. قد لا تحبون هذه الأغنية في البداية، ولكن بلا شك، ستصبح بعد قليل.. واحدة من أغاني فيروز التي ستدخل تاريخ الفن والحب والعشق. تاريخ لن يمحى بسهولة.
وتقول بعض كلمات الأغنية:
هيدي عم بحكيلك قصة بشعة كتير وحلوة كتير بس هيك بتصير عن حالي
هيدي قصة معقولة كل يوم تصير وبتصير كتير واسمعها أرجوك كرمالي
يمكن انا مش هي البنت اللي مفكر فيي بس شي اني راح فل راح تتندم عليا
يا سلام على بكرة يا سلام .. يا سلام من هلأ يا سلام
راح تحصل ولا بد ما بينوضعله حد ما فينا الا نعد ونعد
الأيام شو ضيعنا أيام الأحلام شو كبرنا أحلام
قلك قلقانة وانت تفوت تنام
يا سلام..
Leave a Reply