يصعب التصديق أن مرشحة لعضوية مجلس الشيوخ الأميركي تتميز بسذاجة تدفعها الى الاعتقاد أن مدينة ديربورن قد سقطت في أيدي “منظمات إرهابية مقاتلة” تطبق فيها وعلى سكانها قانون الشريعة الإسلامية!
فالمرشحة شارون آنغل التي تخوض معركة حامية لانتزاع مقعد مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية نيفادا من خصمها القوي زعيم الأغلبية الديمقراطية هاري ريد يفترض أنها مؤهلة بالحد الأدنى الذي يتيح لها التمييز بين الخرافة والواقع في مسألة من النوع الذي خاضت فيه، ردا على سؤال لأحد أنصارها عن مدى صحة وقوع مدينة ديربورن في قبضة “منظمات ارهابية” وخروجها على الدستور الذي يمثل أعلى سلطة على الأرض الأميركية.
قد يصح افتراض السذاجة لدى السائل الذي عبر عن حيرته إزاء “الأخبار الكثيرة” التي سمعها مؤخرا عن أن حكم الشريعة يطبق في بعض المدن الأميركية. وثمة أسباب وظروف قد تستحوذ على تفكير بعض البسطاء من الأميركيين بفعل الماكينة الإعلامية الخبيثة التي لا ترأف بعقول هؤلاء البسطاء.
مثال على ذلك ما زعمته المدونة المتعصبة ضد العرب والمسلمين دوبي سلاشل قبل أشهر عن أن طلبة ثانوية فوردسون هم بمعظمهم “أعضاء في حزب الله”! وليس سرا أن الثقافة المدنية لملايين الأميركيين هي دون الصفر، وهؤلاء معرضون للاستغلال واللعب بأفكارهم واقناعهم بأمور لا تستقيم مع الحد الأدنى للمعرفة بعاديات الأمور الدستورية والقانونية على الأرض الأميركية.
الأرجح أن المرشحة آنغل اعتقدت بأن من حقها اللجوء الى الخرافات والأساطير طالما تجد أنصارا لها قابلين لتصديقها، في محاولتها انتزاع المقعد التشريعي من خصمها الديمقراطي.
واذا عرفنا أن آنغل تنتمي الى ظاهرة ما بات يعرف بـ”حفلة الشاي” التي تجذب عتاة يمينيي الحزب الجمهوري الذي يسعون الى خطف الحزب الى أجندتهم المتطرفة واستعادة المجد المفقود للمحافظين الجدد الذين ازدهر نفوذهم خلال ولايتي الرئيس السابق جورج دبليو بوش، ويتحينون الفرص لإعادة الانقضاض على السلطة في الكونغرس ثم في البيت الأبيض لاستكمال تنفيذ سياساتهم المدمرة لسمعة أميركا لدى باقي سكان الأرض، فإننا لا نسستغرب هذا التلاعب في العقل الأميركي الخام ومحاولة صوغه وفق أهوائهم المريضة وسياساتهم المجنونة التي كلفت أميركا الآلاف من خيرة أبنائها، فضلا عن تبديد ثرواتها ومقدراتها على مشاريع مستحيلة في أكثر من بقعة في العالم.
المرشحة آنغل خسرت في تصريحاتها المعيبة والغريبة من حيث ارادت أن تحرز بعض النقاط ضد خصمها المخضرم. فقد تلقفت حملة السناتور ريد تصريحاتها وقدمتها الى ناخبي الولاية في قالب من الشفقة على هذه المرشحة التي تنشد ثقة الناخبين لتمثيلهم في أعلى مراتب السلطة الأميركية فيما هي تؤمن “بأن خللا أساسيا ما أخرج مدينة ديربورن، وضاحية فرانكفورد في ولاية تكساس عن سلطة الدستور الأميركي”، جاهلة حتى حقيقة أن الضاحية التكساسية باتت منذ العام 1975 جزءا لا يتجزأ من مدينة دالاس!
هل كانت تصريحات آنغل محاولة يائسة لخطب ود الناخبين ولو بتوهم حالة انفصالية في مدينة أميركية؟ ربما. ولكن ما فات آنغل أن صناعة الخرافات ومحاولة ترويجها في زمن ثورة المعلومات مغامرة أقل ما يقال فيها أنها غبية وقاصرة عن بلوغ أسهل الأهداف والطموحات، فكيف بمقعد في مجلس الشيوخ يفترض بمن يطمح الى انتزاعه من خصم قوي أن يكون على مستوى من الحنكة والحكمة يحصّنه من الانزلاق الى متاهات يستحيل النهوض منها مجددا ومتابعة السير وكأن شيئا لم يكن.
واذا كانت المرشحة آنغل قد “تذاكت” للوصول الى منابر الإعلام الوطني لإضفاء هالة من الاهتمام على حملتها الانتخابية بوسائل “ثورية” فقد فاتها أن مدينة مثل مدينة ديربورن تحتضن المقر العالمي لشركة “فورد” ومتحفه الذي يقصده الأميركيون من كل الولايات لها رئيس لبلديتها يقرأ ويسمع التقارير عن مدينته في الإعلام الأميركي ويتفاعل معها وأن له اسم يشير الى أصول ايرلندية، فكيف تتوقع منه أن يصمت أمام زعمها الأرعن بأنه ومدينته وسائر السكان يعانون من قانون الشريعة ويكافحون لإخراج “الإرهابيين” من مدينتهم؟!
رئيس بلدية ديربورن جاك أورايلي لم يكن بحاجة الى تحفيز من عرب المدينة للمسارعة الى الرد على ترهات المرشحة التي “أسكرها” شاي الحزب الجمهوري وأطاح بصوابها، فأقدم على تسفيه تصريحاتها عبر وسائل الاعلام الوطنية والمحلية واصفا اياها بالكلام الأكثر انعداما للاتزان والفارغ من أي معنى، ومتمنيا لو أنها أظهرت نضجا كافيا والرد على السائل المحتار بكلام منطقي وبسيط كأن تقول “أنا لا اعتقد أن هذا الأمر (الشريعة) حقيقي أو حاصل”.
وحسنا فعل رئيس البلدية جاك أورايلي بأن وجه دعوة للمرشحة المشوشة للقدوم الى ديربورن والتجوال فيها لكي تدرك أنها لاتزال مدينة أميركية الطابع رغم تنوع سكانها وتحدثهم بأكثر من ثمانين لغة وبأن فيها ستة مساجد، لكن فيها أيضا تسعين كنيسة وبأن أقدم مسجد في المدينة أسس قبل 90 عاما.
المشكلة في بعض الساسة الأميركيين أو الطامحين الى خوض المعترك السياسي، أنهم يتعاملون مع ناخبيهم المحتملين بمنطق توسيع المجهولات عوض توسيع المعلومات وبعدم إدراكهم أن حبل الكذب في السياسية الأميركية لم يعد قصيرا وحسب، بل آخذ في الاضمحلال لأن الحقائق والمعلومات لم تعد ملكيتها حكرا على النخب بفضل محرك “غوغل” وغيره للبحث السريع الذي يتيح لأبسط مزارع أميركي في نيفادا الحصول على معلومات عن ديربورن وغيرها من المدن الأميركية في لحظات، والتأكد بأن قانون الشريعة ليس مطبقا لا فيها ولا حتى في كل بلدان العالم الإسلامي باستثناء اثنين منها وبأشكال ملتبسة.
أما قضية المبشرين الأربعة الذين اعتقلتهم شرطة ديربورن لمخالفتهم التعليمات المرتبطة بمشاركتهم في أحد الأكشاك في المهرجان العربي في المدينة وخضعوا لمحاكمة برّأتهم في نهاية الأمر وهي المسألة التي استندت اليها آنغل في “إسقاط” ديربورن بيد “الشريعة” فهل تدري المرشحة آنغل أن ناشطا عربيا مسلما من مدينة ديربورن هو، وليس أي ايرلندي أو ايطالي أو بولندي أميركي من المدينة بادر الى حملة للدفاع عن حريتهم في التبشير؟
وهل تدرك آنغل أن ملايين السنوات الضوئية ستنقضي قبل أن يصبح أميركيو ديربورن “أهل ذمة” عند عربها ومسلميها؟
لا يعرف اذا كانت المرشحة آنغل ستلبي دعوة رئيس البلدية أورايلي، لكن اذا فعلت ستشعر بالكثير من الخجل والإحراج مما اقترفه لسانها في “لحظة تخلٍ” يبدو أنها تصيب غير اللبنانيين والعرب!
ليت شارون آنغل تفقه أمثالنا العربية لقلنا لها اذن: “اللي بيعرف بيعرف، واللي ما بيعرف بيقول.. شريعة”!
Leave a Reply