بيروت – كمال ذبيان
ليست المرة الأولى التي يزور فيها رئيس إيراني لبنان، بل هي الثالثة، إذ قام شاه إيران محمد رضا بهلوي في عام 1956، بزيارة بيروت في عهد الرئيس كميل شمعون، الذي ربط لبنان في مشروع إيزنهاور أو ما سمي “حلف بغداد”، برعاية أميركية، بمواجهة المد الوحدوي العروبي للرئيس جمال عبد الناصر.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية، حضر أول رئيس إيراني هو الإصلاحي محمد خاتمي في العام 2003، وحينها لم تأخذ زيارته، هذا التهويل عليها، ولم تقم بوجهها الحملات السياسية والإعلامية، بالرغم من أن الدعم الإيراني لـ”حزب الله” وحركات المقاومة لم يتوقف، لكن خطاب خاتمي لم يكن حاداً، واتبع سياسة الانفتاح على الغرب، ودعا الى حوار الحضارات، وحاول إخراج إيران من عزلتها والحصار الذي فرض عليها من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة وبعض حلفائها الغربيين.
أما زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الى لبنان، فإنها جاءت في ظروف مختلفة لبنانياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، إذ هي أتت في ظل اشتباك عالمي مع الجمهورية الإسلامية، على خلفية برنامجها النووي السلمي، الذي تتابعه بالرغم من القرارات التي استصدرت من مجلس الأمن الدولي ضدها، والعقوبات التي فُرضت عليها، إلا أنها مستمرة في أحقيتها بالحصول على الطاقة النووية لغايات سلمية، كما أن الزيارة حصلت في توقيت لبناني يتعلق بموضوع الخلاف الداخلي حول مضمون القرار الظني المرتقب والذي قد يتّهم عناصر من “حزب الله” باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وموضوع شهود الزور وتسييس المحكمة الدولية.
وتمت الزيارة في أوضاع عربية متردية، ومع مسعى أميركي لإنتاج محور عربي تنضم إليه إسرائيل، لمواجهة التمدد الإيراني، والنفوذ الذي أصبحت تتمتع به الجمهورية الإسلامية في مسألة الصراع العربي–الإسرائيلي، ودعم حركات المقاومة والأنظمة الممانعة، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مما أعطاها دوراً إقليمياً كبيراً، ووزناً في تقرير مصير المنطقة مع غياب عربي كامل، لدول كانت تاريخياً صاحبة دور كمصر والسعودية، اللتين ابتعدتا عن محور الصراع مع إسرائيل، باتجاه توقيع معاهدات سلام، افتتحها النظام المصري عام 1977، عندما زار رئيسه أنور السادات الدولة العبرية، ووقّع معها في “كامب دايفيد” صلحاً، أخرج مصر من الصراع مع إسرائيل في العام 1978، ليتزامن ذلك مع انتصار الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في شباط 1979، والذي رفع شعار إسرائيل “سرطان يجب أن يقتلع”، فقطع علاقة إيران معها، وأزال سفارتها من طهران وأقام مكانها سفارة فلسطين، وكانت هذه إشارة واضحة الى أن النظام الجديد في إيران معادٍ لـ إسرائيل وأميركا، ولقد شكّل وجوده دعماً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأبرز فصيل فيها “فتح”، وكان تعويضاً عن خروج النظام المصري من معادلة الصراع مع إسرائيل، لتحل محله إيران الإسلامية بقيادة الخميني، التي تمّ إشغالها بحرب حدود، افتعلها نظام صدام حسين، بدلاً من الاستفادة من الدولة والجارة الصديقة والحليفة، كما فعلت سوريا بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي نجحت سياسته الاستراتيجية، وفشلت سياسة الرئيس العراقي السابق، الذي شجّعته أميركا ومعها دول عربية لاسيما الخليجية منها، لخوض حرب مدمرة ضد إيران تحت عناوين منع تصدير الثورة، والدفاع عن البوابة الشرقية للعرب، واسترداد أراضٍ عربية استولت عليها إيران.
فالحرب الأميركية على إيران لها سبب واحد، كيف أن نظاماً قام، وغيّر معادلات المنطقة، وبات يهدّد الكيان الصهيوني، الذي تحرص أميركا على أمنه، إضافة الى أن تغييراً قد طرأ على الجغرافيا السياسية للمنطقة، مع سقوط الشاه، مما اضطر الولايات المتحدة الى إعادة رسم خارطة جديدة، فكان غزو لبنان في العامين 1978 و1982، من قبل العدو الإسرائيلي، ومن أجل قيام سلام مع الدول العربية، يمكّن إسرائيل من أن تكون نقطة الجذب، لكن خروج الثورة الإسلامية الى مساندة المقاومة في لبنان، ودعمها قيام “المقاومة الإسلامية”، في العام 1983، ثم مواجهة القوى الاستعمارية في لبنان، التي تمركزت فيه تحت اسم “القوات المتعددة الجنسيات”، لمساعدة عهد الرئيس أمين الجميل، حيث شكّل ظهور المقاومة الإسلامية الى جانب المقاومة الوطنية، حدثين كبيرين، وقد تمكّنت المقاومة الوطنية من تحقيق انتصارات، بطرد الاحتلال الإسرائيلي من بيروت والجبل وشرق صيدا والنبطية وصور، وقد استكملت “المقاومة الإسلامية” ما بدأته المقاومة الوطنية ومعها حركة “أمل” من عمليات لتحرير الأرض وتحقق ذلك في 25 أيار 2000.
لقد كان لاحتضان إيران بالتنسيق والتعاون مع سوريا للمقاومة في لبنان، الأثر الكبير في المساعدة على الصمود والتحرير، وكانت الجمهورية الإسلامية، تنفذ استراتيجيتها في أن تقترب من حدود الاشتباك مع الكيان الصهيوني الذي أصبح في المواقف الرسمية الإيرانية، على أنه إلى زوال، وهو ما يعلنه الرئيس نجاد في تصريحاته وخطبه، وهذا ما أقلق إسرائيل التي باتت ترى إيران على حدودها مع وجود “حزب الله” في الجنوب وحركة “حماس” في غزة، وهو المحور الذي يوصف إسرائيلياً بـ”محور الشر”، وهو الوصف الأميركي نفسه له، مما يعني أن زيارة نجاد تشكل من الموقع المتشدد تجاه إسرائيل ووجودها، خطراً على هذا الكيان المصطنع، وأن اقتراب الرئيس الإيراني من الحدود مع إسرائيل هو رسالة واضحة بأن الحلم الإيراني بدأ يتحقق من الوصول إلى القدس التي أقام الخميني يوماً لها سنوياً، في آخر يوم جمعة من شهر رمضان.
من هنا كان الغضب والاحتجاج الإسرائيلي من زيارة نجاد، والتحذير الأميركي منها، وقد توافق معهما فريق لبناني من قوى “14 آذار”، لم يرغب بالزيارة إذا كانت استفزازية لإسرائيل، أو محاولة تقوية طرف لبناني على آخر، أو إخراج لبنان من محيطه العربي، وهي شعارات سقطت بالوقائع والممارسة، إذ أن إيران تمارس مع لبنان دور الدولة الصديقة، وسعت وما زالت إلى تأمين كل مستلزمات صموده، ودون شروط، في حين أن بعض أهل السلطة يخشون من أن تزعج المساعدات من إيران أميركا ودول عربية خليجية، إذ أن مثل هذه المساعدات تفرض نفوذاً إيرانياً في لبنان، فكيف وإذا كان حليفه “حزب الله” سجّل انتصارين على إسرائيل في العامين 2000 و 2006، مما أعطى الجمهورية الإسلامية ورقة قوية، كما سوريا، وبات هذا الحلف هو الأقوى والذي يستطيع الإمساك بأوراق القوة فيه مع حلفائه، لكن التركيبة الطائفية للنظام السياسي، ومقولة “الديمقراطية التوافقية” كانت تفرض وجود تسوية، يشارك فيها مشروعان متناقضان.
لذلك كانت الخشية من الزيارة هي وضع لبنان في المحور السوري–الإيراني، وهو عملياً قائم، مع هزيمة المشروع الأميركي للشرق الأوسط، وتراجع قوة ونفوذ أدواته في لبنان، لا بل بداية تفككهم، وهو ما أثار ريبة هؤلاء الذين هاجموا زيارة نجاد الذي يرفع شعار مقاومة إسرائيل، والذي أعلن في لقائه الأخير مع الرئيس السوري بشار الأسد في طهران، أن سوريا ولبنان وفلسطين حققوا انتصارات على المشروع الصهيوني، فكيف وأن العراق، ومع بدء الانسحاب الأميركي منه، سيصبح تلقائياً في قلب المحور المقاوم، مما يعني قيام “الجبهة الشرقية” التي تحاصر إسرائيل وتنهي وجودها، وهو ما دعا إليها الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين بعد حرب 1917، وهزيمة الأنظمة العربية فيها، وأن الضرورة الاستراتيجية تقتضي ضرورة قيام كماشة عسكرية تحيط بالدولة العبرية، وهو ما بات قائماً مع عمقين استراتيجيين لها في إيران وتركيا، وبدأت إسرائيل تقلق من قيام هذا المحور الواسع، وقد حاول البعض تسميته “الهلال الشيعي” الممتد من إيران إلى لبنان، لكن دخول تركيا إليه، أسقط عنه الشعار المذهبي، وتم وضعه في الإطار الاستراتيجي، إذ أن وصول “حزب العدالة والتنمية” في تركيا، وتوجهه نحو الشرق، واعتبار فلسطين قضيته المركزية، هو الذي غيّر خارطة المنطقة ورسم “شرق أوسط” غير أميركي يسميه الرئيس الإيراني “شرق أوسط إسلامي”.
فالزيارة الإيرانية تدخل في إطار استراتيجية إيرانية متفاهمة مع سوريا، على قيام محور مقاوم، وأن لبنان ومنذ الانتصارين اللذين حققتهما المقاومة في عامي التحرير 2000، والصمود والانتصار 2006، بات حكماً في هذا المحور، بالرغم من أن قوى لبنانية ممثلة في “14 آذار”، ومتحالفة مع المشروع الأميركي وأنظمة عربية، تسعى إلى أن يكون لبنان خارجه، وهو لبّ وأساس الصراع بين نهجين داخل لبنان، بدأ مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 في أيلول 2004، بطلب أميركي-فرنسي، وتواصل مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري ويستمر مع المحكمة الدولية.
فالزيارة حققت أهدافها، لناحية التأكيد على أن لبنان الرسمي، وهو صاحب الدعوة لم يعد مكبلاً بموانع عربية وأخرى دولية، كانت تعمل على منع حصولها، وقد ساهم رئيس الجمهورية ميشال سليمان في أن تحصل بتوجيه دعوة رسمية للرئيس نجاد، أثناء زيارته لطهران عام 2008، وهو اعتراف لبناني بأهمية التأثير لإيران في لبنان والمنطقة، وأن الدعم الذي تلقاه لبنان على كل الصعد من الجمهورية الإسلامية، هو محل ترحيب وشكر، فكانت الاستقبالات الشعبية رسالة لبنانية، على أن الشعب اللبناني يعتبر أن إيران دولة صديقة، ولقد قرنت القول بالفعل، وهي تحركت أكثر من مرة لتقديم المساعدات وكان آخرها تقديم 450 مليون دولار، من أجل تأمين المياه والكهرباء، وأن اللبنانيين بحاجة إليهما، وهو ما يؤكد أن الزيارة التي اتسمت بتوقيع اتفاقات في كل الشوؤن الاقتصادية والتربوية والثقافية والسياحية بين الدولتين، تؤكد أن إيران في لبنان، مع زيارة رئيسها نجاد، إشارة ورسالة لمن يرغب، أن لبنان القوي بدأ بمقاومته وانتصاراتها، ثمّ في جيشه الذي لن تبخل الجمهورية الإسلامية عن تسليحه، وهو يؤشر الى أن لبنان ربح في تحالفه مع إيران، ولم يخسر كما فعل البعض في تحالفهم مع أميركا.
Leave a Reply