ليس المقصود التساؤل عن هوية “شخص” أو أكثر نجحوا في التسلل الى المبنى المعاد بناؤه حديثا، ودخول الشقة الوحيدة المأهولة في المبنى من قِبل غسان دلال وزوجته وأطفاله الأربعة في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت وأقدموا على قتلهم.
ثمة قاتل يتجول في نفوس الكثيرين من الآباء والأمهات ويوسوس في عقولهم في معظم المناطق اللبنانية، بصرف النظر عن انتماءاتها الطائفية والمذهبية.
ففي خلال العامين الماضيين شهد لبنان وقوع عدد من جرائم القتل العائلية المشابهة لجريمة بئر العبد التي هزت الوجدان اللبناني برمته يوم الثلاثاء الماضي، عندما أقدم غسان دلال اين قرية الطيري الجنوبية على زرع أربع رصاصات في رؤوس زوجته وأطفاله الثلاثة، قبل أن يوجه الطلقة الخامسة إلى رأسه وينتحر. ففي قرية بحر صاف الجبلية أقدمت أم قبل أكثر من عام على دس السم لبناتها الأربع في غذائهم، ثم تناولته في “حفلة انتحار” رتبتها الأم وقضت فيها مع بناتها.
وفي قرية عرمون الجبلية قدم والد لابنيه كمية كبيرة من الحبوب المخدرة وأرغمهما على تناولها معه، أنقذ الأب بأعجوبة، ولم يحتمل طفلاه الوجبة المسمومة فقضيا.
في منطقة انطلياس، شمالي بيروت أقدمت والدة منذ فترة قريبة على سحق جمجمة ابنها بمطرقة و”عللت” جريمتها بأنه كان مدمنا على المخدرات ويقوم بايذائها.
قبل أيام قليلة قتل أحد الأشخاص شقيقه بسبب خلاف على موقف للسيارة، ورأف القدر هذه المرة باللبنانيين لأن المختلفين شقيقان وينتميان الى مذهب واحد، فلم يتحول الخلاف الى حرب شوارع بين أتباع مذهبين مختلفين!
لا يمكن عزل الجريمة المروعة التي ارتكبها غسان دلال بحق أفراد عائلته، (وفق المعطيات المتوافرة حتى الآن) عن سياق عام لمشهد لبناني بات منتجا لكل أنواع الأمراض النفسية والعقلية على مدار الساعة المضبوطة على نشرات أخبار يحتاج المشاهد اللبناني أن يتناول حبة مهدئ قبل مقدمتها وبعد الخاتمة.
لا احصاء رسميا لأعداد اللبنانيين المتعاطين لمهدئات الأعصاب لكن الأحاديث والترجيحات المختلفة تضع نصفهم على الأقل في هذه الخانة.
لبنان برمته أصبح “عصفورية”، فالقادة المولجون بأمور ومصائر الناس، ويفترض أنهم “حكماء” البلد فضلا عن كونهم حكامه يمارسون حفلات جنون خطابية يومية، ويتبادلون التهديدات والاتهامات ويشحذون سيوف “الفتنة” على مرأى ومسمع من مئات الألوف ممن يسعون سعي اليائسين الى قوت عيالهم اليومي، بين أكوام النفايات للعثور على قطع من البلاستيك أو الحديد يشترون بثمنها خبزاً وخضاراً لسد رمق أطفالهم.
أكدت كل المصادر الأمنية بصورة “شبه حاسمة” أن غسان دلال هو من أقدم على قتل أطفاله الثلاثة وزوجته، ثم الانتحار. (برافو). انجاز عظيم! لكن من سيسأل كيف تحول غسان “الملتزم دينيا” و”الخلوق” و”المرح” و”المقاوم” الصلب الذي شارك في مواجهة الاحتلال منذ أعوام بعيدة، وأصيب وفق تأكيدات كل من يعرفونه، كيف تحول من قتال العدو الذي قتل أطفال لبنان في قانا وغيرها الى قاتل لأطفاله هو؟ وأين سيقع “باقر” و”مهدي” و”رضوان” في ذاكرتنا المستقبلية أم أن هذه الذاكرة لن تمنحهم فسحة فيها؟
وفيما اللبنانيون مقيمين ومهاجرين ومهجرين أدمت قلوبهم هذه الفاجعة، يجري الحديث عن “ضائقة مالية” وعن “وضع صحي صعب” دفعا بغسان دلال الى انهاء حياته وحياة أفراد أسرته. ومع الإقرار بصحة هذه الدوافع، يسأل المرء لماذا ترك غسان لهذا المصير مع عائلته، وهو لم يكن مواطنا “مجهولا” أو “مقطوعا من شجرة”، وقدم أغلى ما يملك لأجل قناعاته الحزبية والدينية والوطنية؟ من ترك غسان وقبله (وبعده) العديدين لكي تتحول لمساتهم الى خناجر وبسماتهم الى رصاص في أجساد ورؤوس فلذات الأكباد؟
وعلام ينقسم زعماء الطوائف اللبنانية، ويستعرضون عضلاتهم القتالية عبر الشاشات المدفوعة الأجر كل يوم متلاعبين بأعصاب الناس وبقوتهم وبأمنهم وبأقساط مدارس أطفالهم، وبحبة دوائهم؟
وأية “فتنة” تلك التي ستكون أبشع من أن يعود “مهدي” و”باقر” من مدرستهما الى الحضن البيتي الدافئ ليجدوا الأب وقد استحال قاتلا ينتظر وصولهم لإلحاقهم بالوالدة والطفل الأصغر ذي الأربع سنوات برصاصة في الرأس عوضا عن قبلة على الجبين؟
ثمة قاتل يجول في نفوس اللبنانيين. ثمة قاتل يعشّش في رؤوسهم. من يلقى القبض عليه؟ من يأبه لعبثه بأطفال لبنان وبحصده لأرواحهم البريئة؟ ثمة قاتل يجري تجاهله والتركيز على “فتنة” بين اللبنانيين كأنها قدر محتوم. ثمة قاتل لا أحد يريد استجوابه ولا محاكمته. ثمة قاتل تضعه وسائل الإعلام في كعب اهتماماتها وتفرد صدور مساحاتها لمهرجين وموتورين وسحرة وأفاكين يقصفون أعصاب اللبنانيين بكل عيارات الكلام-الرصاص، ويعبسون أمام الكاميرات أو يبتسمون ابتساماتهم الصفراء المستهترة بأماني وأحلام الناس الفقراء.
ثمة قاتل يطبق على رؤوس اليائسين في كل المناطق والطوائف، ويحول أمراءها وحكامها وزعماءها الى شياطين خرس.
ثمة قاتل، قتل غسان دلال الإنسان وغرس الوحش فيه ليتربص بزوجته وأطفاله الثلاثة ويجهز عليهم، ثم ينتحر. إنه المشهد البناني العام الذي يتكشف يوما بعد يوم عن انهيار لمنظمومة القيم الوطنية أولا والدينية والأخلاقية تاليا، ويغيّب الدولة، الراعي الطبيعي لشؤون الناس، ويحوّل مناطقهم الى غابات، وينبش في أعماق غرائزهم ليحولهم إلى وحوش كاسرة.
هذا القاتل، لن يردعه محور “سين-سين”، ولن توقفه قمم الأشقاء وتمنيات وتوجيهات وزيارات “الأصدقاء” من أحمدي نجاد الى جيفري فيلتمان. هذا القاتل وحدهم اللبنانيون يعرفونه. وحدهم بإمكانهم أن يقتلوه في كل واحد منهم، وفيما عدا ذلك فكلهم “شهود زور” أمام تحول جزء من أهلهم اليائسين إلى مشاريع قتلة في الشارع.. والبيت!
Leave a Reply