أذكر جيدا عندما حضر عباس ناصر إلى مدينة ديربورن الأميركية معقل الجالية العربية، قبل نحو ثلاث سنوات، كيف استقبتله هذه الجالية بكل فعالياتها وجمهورها استقبال الأبطال تحت عنوان “المراسل المقاوم” وعندما تحدث عباس ناصر أمام حشد المستقبلين الذين احتضنوه بعيونهم كانت صورته وكان صوته لايزالان منطبعين في أذهان المهاجرين اللبنانيين والعرب الذين واكبوا تقاريره الميدانية خلال حرب تموز لحظة بلحظة.
تحدث عباس أمام مستقبليه بلغة المقاوم وكانت كلماته تصدح فخرا بما أبلاه المقاومون من بلاء عظيم في صد العدوان وتسطير النصر وتجريع إسرائيل كأس الهزيمة. وفي جلسة خاصة مع عباس جمعت بعض الفعاليات اللبنانية والنشطاء في مدينة ديربورن جرى نقاش حول الأوضاع اللبنانية والانقسامات السائدة.
وأذكر جيدا أن عباس كان شديد الدفاع عن خط المقاومة ونهجها وعن ضرورة أن يستوعب منتقدوها وأخصامها أنها رصيد للبنان لا يجوز التفريط به تحت أي طرف.
أسوق هذا الكلام بعدما قرأت بعض التقارير الصحفية اللبنانية والعربية التي تتحدث عن قرب مغادرة الصحفي اللبناني عباس ناصر قناة “الجزيرة” الفضائية، كأحد أبرز مراسليها الميدانيين المقيم في العاصمة اللبنانية.
يمكن لخبر مغادرة ناصر أن يكون عاديا لولا أن اسم القناة القطرية في بيروت ارتبط به وبصحفي آخر هو مدير مكتب القناة في بيروت غسان بن جدو، دون أن يعني هذا التقليل من شأن بقية العاملين في القناة في ذلك المكتب.
الحديث هنا لا يدور عن علاقة عباس الإشكالية برئيسه “بن جدو”، مدير المكتب، أو حتى بإدارة القناة في الدوحة. الأمر يتعلق بعلاقة عباس ناصر بشريحة كبرى من مشاهدي القناة ممن سيفتقدون إطلالته وتقاريره المميزة التي يتقن فيها المزج بين نقل الوقائع الميدانية وحس التحليل الذي يمنحها نكهة خاصة، ويترك لدى المشاهدين انطباعا أوضح حول ظروف الحدث الميداني، ويحرك لديهم الأسئلة المساعدة على فهم التطورات في بلد تستعصي أحداثه على فهم اللبنانيين غالبا، فكيف بجمهور المشاهدين العرب للقناة التي تحظى بالمشاهدة الأعلى في كل البلدان الناطقة بلغة الضاد.
وإذا صحت أنباء قرب استقالة عباس ناصر على خلفية خلافه المزمن مع مدير المكتب غسان بن جدو وغياب “الكيمياء” بينهما فإن المشاهد العربي سيفتقد ظهور أحد أبرز المراسلين، بنصوصه النفاذة إلى أعماق ذهن المشاهد وأسلوبه المميز ولغته الراقية، مما جعله منذ سنوات علامة القناة الفارقة في العاصمة اللبنانية، بل في معظم العواصم العربية والدولية. المشاهد العربي لن يعبأ كثيرا بتفاصيل أو ظروف الخلاف، “شخصية” كانت أم “سياسية” بين ناصر وبن جدو، لأنها لن تغير شيئا من خسران القناة لأحد أرصدتها الغنية في بلد عربي تستقطب أحداثه حيزا رئيسا من الاهتمام اللبناني والعربي والدولي.
فقد شكل ناصر منذ انضمامه الى القناة إضافة نوعية هامة الى شبكة مراسليها التي كسبت عقول وقلوب الملايين من المشاهدين على مساحة العالم العربي منذ انطلاقتها في العام 1996، والتي ستخطئ التقدير اذا دفعت بعباس ناصر الى الاستقالة، بعد استقالة كوكبة من الاعلاميين والاعلاميات منها في الأشهر الأخيرة، لأسباب لا يمكن الجزم بطبيعها في هذه العجالة.
تسلك إدارة القناة ما يبدو نهجا لا يراعي حاجة مشاهديها الى التواصل مع خامة من المراسلين والاعلاميين الذين كانوا سبب تميزها عن سائر الفضائيات العربية واضطروا الى النزوح عنها الى أماكن عمل أخرى “منافسة”.
ومن دون الحاجة إلى استشكاف تفاصيل الخلاف بين ناصر وبن جدو، أو “الانتصار” لأحدهما على الآخر، واذا صح ما تواتر عن انحياز إدارة القناة لبن جدو وإغفال هواجس ناصر وشكاواه، فإننا أمام نهج لإدارة القناة يصعب فهم منطلقاته وكيفية خدمته لمسيرة قناة قامت على التميز وانتقاء الأفضل لإغناء شاشتها.
قد لا تعتقد إدارة “الجزيرة” أن مغادرة عباس ناصر ستشكل حدثا بالغ السلبية على حضورها الاعلامي، خصوصا في الفضاء اللبناني، لكن المؤكد أن تداعيات هذه المغادرة لن تتأخر في الظهور، ولا حاجة إلى القول إن جمهور المشاهدين لا ينجذب الى من يجلسون وراء مكاتبهم في القناة، بل الى من يخاطبهم مباشرة ويوقع تقاريره باسمها على الشاشة. وليس مبالغة القول أن حضور مدير القناة وضاح خنفر كمراسل مفوه من شمالي العراق كان أكثر طغيانا بما لا يقاس من دوره الحالي في أذهان جمهور المشاهدين.
عباس ناصر واحد من صفوة مراسلي “الجزيرة” الذين، إذا دفعوا الى مغادرتها بالاستقالة، أو الاقالة عبر تدابير إدارية قاسية سيتركون ندوباً بإرزة على شاشتها لن تروق لأعين المشاهدين بالتأكيد.
يجدر التذكير، تكراراً، أن امتداح عباس ناصر وقدراته الإعلامية المتنوعة والمتميزة ليس منّة من أحد يجرّد قلمه دفاعاً عنه، بل هو أولاً استحقاق يقتضيه الانصاف، وهو تالياً لا يتوخى الانتقاص من العاملين الآخرين مع القناة في بيروت، فمراسلاتها في العاصمة اللبنانية إعلاميات ناجحات ونشيطات ويؤدين مهماتهن الإعلامية بالصورة التي ترضي المشاهد وادارة القناة بـ”طبيعة الحال”.
أما مدير مكتب القناة في بيروت غسان بن جدو فليس بحاجة الى شهادة من أحد على تميزه الإعلامي، لكن المؤسف أن لا تستطيع إدارة فضائية بحجم وأهمية “الجزيرة” أن تبقي على الجمع بين جودتين وتميزين لأسباب يشاع أنها تتعلق بامتلاك أحد طرفي الخلاف (بن جدو) نفوذا مؤثرا لدى إدارة القناة.
لا يمكن فهم كيف يؤدي “الخلاف الشخصي” بين صحفيين الى التضحية بصحفي تألق في الميدان وطبع الشاشة بحضوره وأدائه فضلا عن الشجاعة التي أبداها في حدثين كبيرين غطتهما “الجزيرة” وربطت بها الجزء الأعظم من المشاهدين خلال مجرياتهما، وهما عدوان تموز 2006 الإسرائيلي على لبنان والاعتداء على أسطول الحرية في أيار الماضي، فضلا عن مئات التقارير الميدانية في أحداث مفصلية تألق خلالها عباس ناصر أيما تألق.
أما أسوأ ما يمكن أن يساق في معرض الحديث عن احتمال مغادرة عباس ناصر قناة الجزيرة، فهو “استياء” مدير مكتبها في بيروت أو ادارتها في الدوحة من “الميول السياسية” المستجدة لعباس ناصر والتلميح الى قربه من فريق سياسي لبناني بسبب صداقة قديمة وزمالة دراسة تربطه بالنائب في كتلة “لبنان أولاً” عقاب صقر.
فهذه مسألة لا تستقيم لا مهنيا ولا أخلاقيا ولا موضوعيا في قناة شعارها الأبرز هو “الرأي والرأي الآخر”. أما الزعم بأن عباس ناصر لم يعد قريبا من تيار المقاومة، فهو زعم يتراوح أصحابه بين السذاجة والخبث.
من يعرف عباس ناصر، يدرك مدى غثاثة الشائعات والروايات عن أن عباس ناصر “باع نفسه” و”حجتهم” اليتيمة هي ان علاقة صداقة وزمالة دراسة قديمة جدا تربطه بالنائب عقاب صقر.
لنستذكر هنا، أيضاً، ما قاله عباس ناصر لزملائه الإعلاميين بعيد عودته سالما من المهمة الخطرة على متن إحدى سفن أسطول الحرية الذي نفذت اسرائيل اعتداء دمويا ضده، واعتقل خلاله ناصر وتعرض للضرب والاهانة على أيدي المحققين الإسرائيليين في سجن بئر السبع، والذي ورد في تقرير في صحيفة الأخبار لكاتبته ليال حداد بعنوان “عباس ناصر وجها الى وجه مع القاتل”. قال عباس بالحرف “كان عندي قناعة راسخة بأنني سأعود (من الأسر) إلى لبنان.. خاف الإسرائيليون مني أكثر من الجميع لأنهم يدركون أن للأجانب سفارات تعيدهم الى بلادهم أما اللبنانيون فلديهم صواريخ توفر عودتهم السليمة، باختصار اللبناني تحول الى عبء على الإسرائيليين”.
المأمول من ادارة قناة الجزيرة أن تخرج من “لحظة التخلي” ومحاولة استعادة عباس ناصر إلى شاشتها التي افتقدته مؤخرا، وبأن تتخلى عن أية قرارات ادارية قيل إنها اتخذتها لسحب بعض الامتيازات من ناصر كانت قد شجعته على البقاء فيها والتخلي عن عقد أبرمه قبل سنوات مع محطة “بي بي سي” العربية، وبناء على تمن شخصي من أمير قطر الذي يُقال إن أول ما فعله خلال زيارته الشجاعة للضاحية الجنوبية المدمرة بالعدوان الإسرائيلي عام 2006 هو السؤال عن عباس ناصر
Leave a Reply