بضع خطوات ونصل؛ ولكنه تسمر في مكانه، فقد كان المشهد أكبر من عينيه الصغيرتين اللتين لم تريا أبعد من “حاكورة بيت الجيران”.
تلاشى الصوت مع ابتعاد صاحبته، تفرق الجمع ، وبدأ المشهد يضمحل شيئاً فشيئاً.
أخذ يعد: واحد.. اثنان.. خمسة.. غلط.
ويعاود العد بعناد ويخطئ في كل مرة.
كان يريد ان يصل الى الرقم عشرة حتى تظهر أمه المختبأة وراء الحائط. كان يقلد أولاد الجيران فيما كانوا يفعلون في حاكورتهم.
ولكن أمه لم تظهر ابداً رغم كل محاولاته اليائسة ورغم أنه وصل بالعد حتى الألف بدون خطأ هذه المرة، كما لو أن له ألف إصبع.
يقطع بلطف الورقة من الدفتر ويضعها في ملف ضخم يجثم فوق إخوانه العشرة. ينزل الى الشوارع “العتيقة”، يذهب الى حيث كان مرتع الطفولة يبحث عن “حاكورة الجيران”؛ او حتى عن أولئك الجيران؛ ولا يجد اثراً، يهيم على وجهه قليلاً ويعود الى منزله.
كانت هذه عادته مع كل فجر؛ مع أنه يعلم في قرارة نفسه انه لن يجد تلك “الحاكورة”، وانه سيكتب الكلمات ذاتها التي كتبها البارحة والتي سيكتبها غداً، وانه لن ينهي تلك القصة ابداً.
يسأل نفسه: لماذا هذا الإصرار على كتابة هذه القصة بعينها التي وان أمسك بجميع خيوطها فلن يقدر على نشرها، فما ذاك الطفل الا ابي؛ الا يمكنني ان اكتب عن “القضية” التي القت رحلها أو تكاد.. الا يمكنني ان أسجل “أنا عربي” في وكالة الغوث البالية بدلاً من كل هذا البحث المجنون عن الهوية؟؟!!
يجلس امام ورقة بيضاء بدت له كأنثى في أوج توردها؛ تغريه بأخذها، و”برفق”، الى موتها المشتهى؛ الى حيث تصبح الآلام عنوان السعادة.. ولكنه بدل ان يستجيب لها ينفض عن صليب والده الغبار. يحمله. ينادي صغيره ويتجه الى درب الجلجلة؛ قبل “الجمعة العظيمة” بأسبوع..
ينادي بأعلى صوته، وسط دهشة الجميع:
“بالاثم ولدت وبالخطيئة حبلت بي أمي”؛ احمل صليبك.. هلالك.. أو حتى نجمتك.. واتبعني! اتبعني.. الى حيث صلب الحق، لنسأله ان كان يغفر لنا يوم سكتنا عن قول الحق.. لنسأله ان كان يسمح لنا بسلوك غير هذا الدرب، الذي دَفع فيه دمه ثمناً لخطايانا.. لنسأله كيف انتهت قصة ذالك الولد المسكين، وان كان دخل الجنة لصبره او النار لخنوعه لمغتصبي دربه.
Leave a Reply