بكامل أسلحتهم، يمشون صامتين صوب نقطة في البرية، يتقدمهم ضابط يخطو مرتدياً زياً ينم عن خبرته في مجال مكافحة المفرقعات والألغام، بجانبه كلب مدرب راح يفتح الطريق لهذا الضابط كي يتقدم بمفرده في حماية ثلة من زملائه الواقفين عن بعد. فلما عاد الكلب في صمت، انطلق الضابط يتحسس الأرض بعصا معدنية من قبل أن يمشي خطوة واحدة إلى الأمام.
عندما اطمأن إلى الأرض المتبقية نحو الجسم الذي كان يرتاب فيه، تقدم الضابط الإسرائيلي نحو الهدف باطمئنان. انفجر فيه هذا الشيء ولم تنقذه شدة تحصنه وملابسه الواقية، فمات!
هذا مشهد من فيلم روائي، يحمل الجنسية الإسرائيلية وجميع أبطاله إسرائيليون يتحدثون العبرية مصحوبة بترجمة إلى الإنكليزية. اسم الفيلم Beaufort أو “القلعة الجميلة”. وهي قلعة واقعة داخل الأراضي اللبنانية فوق جبل قرب الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. قلعة تتالت عليها الحوادث وتوالى عليها الجنود منذ القرن الثاني عشر، زمن الحروب الصليبية حتى أتى الدور على جيش العدوان الإسرائيلي أن يحتلها عام 1982 ويمكث بداخلها لمدة 18 سنة متواصلة، وهي سنوات احتلاله وحربه ضد لبنان وانسحابه مهزوما عام 2000.
يدور الفيلم حول مجموعة من الجنود لا يتعدى عمر الواحد منهم التاسعة عشرة. زجّوا بهم في هذه القلعة لحمايتها لكنهم يعلمون علم اليقين أنهم راحلون عنها لا محالة. وأن استمرارهم فيها هو مضيعة للوقت والعمر والجنود. كانوا لا يرون في الانتظار بطوله ولا يعتبرون أن الانسحاب نصراً.
في أحد المشاهد يقف الضابط الشاب الثائر -اسمه “ليزار”- ويسأل قائده مستنكراً: مزيدا من التحصينات تريدون بناءها؟ ماذا عساها أن تفعل لمواجهة عدو يقتلنا الواحد تلو الآخر دون أن نراه؟
يصور الفيلم حياة الجنود داخل تلك التحصينات. يعيشون في اختناق في عزلة داخل اسطوانات معدنية على سرائر معلقة ولا يخلعون ملابسهم أبدا. ينامون بأحذيتهم في قلق وخوف دائم يتجرعون الحزن والحنين الى يوم يغادرون فيه القلعة والخدمة العسكرية برمتها.
في إحدى جلسات إحباطهم، يلح زملاء الجندي “شبيتزر” طالبين منه أن يدندن أغنية تعزيهم بفقدان زميلهم الذي قتل البارحة تحت القصف، فيقف ويغني: “ما عدت أكترث أن أسبح أو أغرق. ما عدت أخاف أن أعيش أو أموت. آباء ينتحبون أبناءهم.. الذين ينتحبون آباءهم”. في اليوم التالي، يموت المغني، الجندي “شبيتزر” بقذيفة أثناء حراسته للقلعة، وينعيه التلفزيون الإسرائيلي الذي يجري لقاءً مع والده في مقابلة يبدي خلالها ندما كبيراً، ليس بسبب موت ابنه، بل لأنه علمه تعليما عاليا ورفيعا ولم يعلمه أن حياته غالية. ويضيف الأب: “أنا لا أعلم مكان ولديَّ الآخرين بعد أن سافرا الى الخارج ولكني أعلم فقط مكان ابني الذي بقي في هذا الوطن. إنه في القبر”!
في نهاية الفيلم، يصل الى القلعة خبير مفرقعات آخر، لا لكي ينزع ألغاما هذه المرة، وإنما ليزرع حوالي ألف لغم حول جدران القلعة. إنه نذير انسحاب حقيقي هذه المرة، وخلال ساعات عليهم ترك القلعة مزروعة بالألغام تنهي 18 عاما من الاحتلال والتحصينات كان نصيب كل سنة منها مئة طن من الجلاميد الخراسانية.
انتظارا لأمر الإخلاء الذي لم يكن متوقعا، ينكمش الجميع في خوف وذعر في مكان أجوف خاوٍ، قد يتمزقون إلى أشلاء بشر مع سقوط قذيفة واحدة فوق ألف لغم جاهز للانفجار. تصدر الأوامر فعلياً بالرحيل. يتجمعون داخل دباباتهم المصفحة، وبضغطة زر تتحول القلعة الجميلة الى كرة لهيب في جنح الليل وليرحل هؤلاء الجنود الى داخل قلعة أخرى.. هي اسرائيل نفسها، حيث تحصينات أخرى بانتظارهم.
تحولت القلعة الجميلة كلها الى رمز للدولة الإسرائيلية وتحول كل ما كان يدور في أنفسهم داخل القلعة الصغيرة المحصنة انعكاسا لما يدور في خلدهم داخل القلعة الكبيرة: إحساس دائم بالخوف والمرارة انتظارا للحظة الرحيل وانسحاب تلو انسحاب و”آباء ينتحبون أبناءهم.. الذين ينتحبون آباءهم”
ترى هل يصور هذا الفيلم الرحيل المتوقع يوما من “القلعة الكبيرة” بدمار كبير يخلفونه وراءهم مثل ما كان حال رحليهم من القلعة الجميلة عام 2000.
Leave a Reply