لقد أصبح معروفاً للجميع، بمن فيهم العراقيون وهذا هو الأهم، أن التفجيرات المتلاحقة التي تضرب أحياء المدن العراقية بين الفينة والأخرى، ليست أكثر من مساومات وأدوات ضغط سياسية، يراد منها رفع سقف المطالب، أو التنغيص أو الزكزكة خاصة وأن معظم تلك التفجيرات تأتي في أعقاب فشل مداولات أو حوارات سياسية.
وفي السياق ذاته، يظهر جلياً أنه من العسف والخطل السياسي تفسير تفجيرات كنيسة النجاة (في حي الكرادة ببغداد التي ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى) وتأويلها في خارج السياق السياسي (والمساومات السياسية الرخيصة)، حيث يجتهد البعض من أصحاب النوايا الخبيثة لوضعها وبثها في سياق ديني ومذهبي كل الغرض منه تأجيج نزعات الكراهية والفتن الطائفية.
ومرة أخرى، لا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء ليدرك الناس أن سياسيات “فتح باب جهنم” وسياسات القتل الجماعي وتفجير الأماكن العامة، والأماكن المقدسة على وجه الخصوص الإسلامية والمسيحية منها على السواء، إنما هي أحط السلوكيات السياسية في هذا المضمار، كونها تقامر ليس بدماء الأبرياء فحسب، بل تهدد بنسف ثقافة البلد وتغيير وجهه الحضاري.
فغني عن الذكر أن العراق، ورغم جميع النكبات التي مر بها، لم يشهد صراعات دموية على أساس طائفي ومذهبي، إلا في حقبة “الديمقراطية الأميركية”. الأميركيون الذين يتباهون بأن بلدهم، الولايات المتحدة، هو بمثابة “البوتقة الصاهرة”، يعرفون أكثر من غيرهم، أن الثقافة الأميركية هي مزيج من ثقافة المهاجرين من كل أصقاع الأرض. ولكنهم لا يعرفون أن عاصمة الرشيد، بغداد، وقبل ألف سنة، نجحت بكونها أول “بوتقة صاهرة” للعروق والثقافات والحضارات، وأنها العاصمة الوحيدة التي هزمها الأعداء المغول.. الذين انصهروا بين ناسها بعد قليل وتعلموا اللغة العربية ودانوا بدين أبنائها.
كذلك لا يعرف العابثون، من جيران العراق، والطامحون الموهومون بتأسيس تنظيمات باسم الإسلام تارة، وبأسماء مستعارة تارة أخرى، هؤلاء لا يعرفون مقدار الخطر الذين يتسببون به لأبناء العراق وثقافته وتاريخه الإنساني، وهم يحولون أرض الرافدين إلى مكسر عصا، إلى منصة دموية لتدوير الزوايا، وعقد الصفقات وتبادل الرسائل النارية.
ولقد أصبحت مقاصد تلك التنظيمات المأفونة معروفة، ودعاواها مثيرة للسخرية، فالعرب والمسلمون يعرفون أن أجدادهم الأوائل لم يبنوا الدولة الإسلامية بالسيف وبالعنف، ولم ينتجوا حضارة إسلامية تقوم على الكراهية والتعصب ونبذ الآخر، بل على العكس.. كانت حضارة يقوم اساسها على الاعتراف بالآخر واحترامه وحمايته، ويحق للعرب والمسلمين أن يفاخروا على الدوام، بأن اليهود والمسيحيين وأتباع الديانات الأخرى عاشوا في كنف الدولة العربية معززين مكرمين، وجزءاً لا يتجزأ من الأنسجة الثقافية والحضارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أما ما نسمعه عن بعض التنظيمات الإرهابية، ومنها التنظيم الذي يزعم أنه بصدد إعلان “دولة العراق الإسلامية” والذي جاء في بيانه الأول “إعلان الحرب على سائر المسيحيين” و”استئصال شأفتهم” بسبب “انتهاء المهلة التي منحها (التنظيم) للكنيسة القبطية على خلفية احتجازها لسيدتين”، فواضح أن تلك الزمرة من الموتورين إنما يعيش منظروها وممولوها وجنودها وأفرادها خارج التاريخ، مرتضين لأنفسهم أن يكونوا أدوات ضغط ومساومة وابتزاز، غير واعين بخواتيم ما يفعلون. إنها ساءت سبيلاً.
ولقد كان الأحرى بهم، أن ينتبهوا ويفهموا بأن المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، في العراق ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ليسوا عابرين وليسوا طارئين، بل هم في صلب وأساس الصيغة الوطنية، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وهم ليسوا مجرد “حالة” أو “موضوع” يؤخذ بعين الاعتبار، بل هم ضرورة حضارية وثقافية وعروبية وإسلامية، ويصح فيهم القول الذي قيل في السيد المسيح “الحجر الذي أهمله البناؤون أصبح حجر الزاوية”.
وأما ما تقوم به الأنظمة الغربية وحكوماتها من ادعاءات زائفة من قبيل أنها بصدد الدفاع عن المسيحيين ومصالحهم ووجودهم، فمثل هذه الدعوات ليست أكثر من سلوكيات “كولونيالية” ذات خلفية انتدابية، تمتد جذورها ودوافعها الأخلاقية والسياسية إلى الحقبة الاستعمارية، التي ترى في العالم الغربي جهة لها الحق في التحكم بمصائر الأمم والشعوب والسيطرة على الثروات.
وما قامت به ألمانيا (مؤخرا) من دعوتها الى حماية المسيحيين في العراق (على خلفية أحداث كنيسة النجاة) من خلال حكم ذاتي، ليس أكثر من ترقيص أفعى في القفة، أو شعوذة غربية، لم تعد تنطلي على أحد (بمن فيهم نحن، أبناء العالم المتخلف، على حد وصفهم لشعوب منطقتنا).
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها والتغاضي عنها، أن عمر المسيحيين في العراق يعود إلى ألفي سنة ماضية، وهم مستمرون بالوجود هناك، ولا أحد قادر على.. “تفخيخ” تاريخهم ودورهم في المنطقة و”تفجيره”!
Leave a Reply