تأتي المصائب والأحزان والكآبات من كل حدب وصوب، بدون الحاجة إلى دليل أو سبب. أما لكي يصل الفرح، ولو متأخراً، ولو بعد فوات الأوان، ولو في آخر الليل، فهو بأمس الحاجة إلى خريطة طريق، إلى كلاب أثر. السعادة تائهة وليس لنا موهبة البدو في اقتفاء أثرها الباهظ. السعادة غامضة وليس في وسعنا ممارسة اليوغا لشم رائحتها البعيدة. ولكن.. وبدون الإغراق في الشكوى والنق، يظل العالم محتملاً ورائعاً وسعيداً (مصدراً للسعادة) بالرغم من كل شيء، ويظل البشر طيبين ومفاجئين بالرغم من كل الخيبات والتجارب الشخصية الفاشلة في هذا المضمار، ونظل نردد أن الدنيا “لو خليت بليت”!
ولقد كان من دواعي فرحي العميق، وسعادتي الغامرة، في الأيام القليلة الماضية، اتصال هاتفي جاء من شخص لا أعرفه يشكرني على مقالة كتبتها. إذ لم يخطر على بالي أن أتلقى طوال حياتي في مهنتي الكتابة والصحافة مثل ذلك الهاتف، ورغم أنني أصاب بالحرج والخجل الشديدين عندما يبدي أحد القرّاء إعجابه بكتاباتي أو يظهر استجابة أو استعداداً لمناقشتي، إلا أن تلك المرة كانت مختلفة.
فقد كان صاحب المكالمة شخص عراقي يناهز عمره الـ86 من العمر. جاء إلى مكتب جريدة”صدى الوطن” سائلاً عني بعد قراءة الموضوع الذي كتبته عن الأردني مصلح الرفوع الذي فقد ابنته حليمة ووجدها بعد 7 سنوات، دون أن يتمكن من استردادها من “مربيتها” الأميركية حتى هذه اللحظة.
جاء أبو ضياء ابن السادسة والثمانين إلى مبنى الجريدة، مشياً على الأقدام على أغلب الظن، وترك مبلغاً من المال على سبيل التبرع لمساعدة “أبو حليمة”. فعل ذلك متأثراً بقراءة المقالة الصحفية التي ردد على مسامعي أغلب تفاصيلها، وأخبرني بمشاعر الأسى التي انتابته على الأب وابنته. وقال لي أيضاً (وكان ذلك مصدر سعادة شخصية لا توصف) بأنه يقرأ ويتابع ما أكتبه في الجريدة. في تلك اللحظة أحسست بشيء خاص لم ألتفت له من قبل ولم يعنيني أبدا. شعرت بشعاع نظيف من الشمس، بتيار منعش من الهواء الطلق، بموجة نعناع حريف تتكسر على قلبي وروحي.
يقيناً، وصدقاً.. أنني لم اختبر ذلك الشعور من قبل. أذكر عندما بدأت كتابة الشعر في يفاعتي كان همي الأوحد أن أحوز على إعجاب الفتيات. وعندما عملت في الصحافة فيما بعد، كانت المشاغبة هي لعبتي المفضلة والأثيرة. ولكن الاتصال الهاتفي الذي تلقيه في ذلك اليوم، أفهمني أن الكتابة قد تكون عملاً ذا مغزى، عملاً قد يضيف معنى لحياة أشخاص يظن الواحد منا أنهم “استقالوا” من الحياة، أو أنهم لا يأبهون.
أنا الآن على يقين، أن بعض البشر يتقدمون في السن، يذهبون إلى أقصاه طاعنين إياه في الصميم من دون أن يخسروا الكثير، ودون أن يرتدوا “إلى أرذل العمر” بل إلى أنبله.
وأبو ضياء بعشرات الدولارات التي جاد بها، هو واحد من هؤلاء “النبلاء” بلا شك!
العطاء هو العطاء، سواء أكان قرشاً واحداً، أو ألفا. والكرم هو الكرم، أسواء أكان تقديم كأس شاي أو الدعوة إلى أفخر المطاعم. المهم هو القدرة على العطاء، والسعي لذلك، وعدم اختراع الأعذار التي تحاول تبرير التقصير والتطنيش والبخل.
أرفع القبعة لأبو ضياء وهو يقطع الطريق من مبنى المسنين قرب مبنى سكرتارية المدينة إلى مبنى جريدة “صدى الوطن” ويتبرع لرجل لا يعرفه، وأنا على يقين أن عشرات الدولارات تلك، التي جاد بها.. هي أثمن من قيمتها المادية بكثير.
لم تفارقني مشاعر الارتباك وأنا أكتب هذه المقالة، لأنني لم أتعود في حياتي كلها على تدبيج المدائح وتمسيح الجوخ، ولطالما تجنبت حتى شكر أولئك الذين يستحقون الشكر، فقط لكي أتهم النفاق أو الممالأة.
بعض الأشخاص “يجبرون” المرء على تغيير سياسته، وأبو ضياء واحد منهم بلا شك!
Leave a Reply