ليس بلا مغزى ظهور الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في هذه الآونة بصفته “كاتبا” للترويج لكتابه المعنون “لحظات قرار” يتناول فيه أهم المحطات في ولايتيه الرئاسيتين بين عامي 2000 و2008. بل إن هذا الظهور تزامن مع استعادة حزبه الجمهوري السيطرة على مجلس النواب والمزيد من حاكميات الولايات الأميركية في الانتخابات النصفية الأخيرة. غير أن هذا الظهور يحمل شكوكاً حول الغاية التي يتوخاها من دفعوا جورج بوش الى الكتابة وهو المعروف بسطحية تفكيره وتعثره بجمل قليلة حين يتعين عليه الظهور أمام وسائل الإعلام، فكيف بتأليف كتاب عن مرحلة حكمه، التي شهدت اتخاذ قرارات بشن عدد من الحروب الاستباقية والانتقامية التي لاتزال أميركا تغرق في أوحالها حتى الآن. لم يتغير تفكير الرجل خارج البيت الأبيض بل هو يكاد يقول لو عدت لفعلتها مرة ثانية.
كأن الرئيس السابق والأسوأ في التاريخ الأميركي يريد التذكير بأن انتخاب أول رئيس أميركي من أصل افريقي كان بمثابة استراحة وفرصة لإعادة تنظيم الصفوف والأفكار (الشريرة) لعصابة المحافظين الجدد التي أضافت إلى قائمة الشعوب الكارهة لأميركا أعدادا جديدة، دون الحاجة الى تكرار السؤال الساذج الذي راج في تلك الحقبة “لماذا يكرهوننا”!
ولعل “الدرس الأول” الذي يتحتم استيحاؤه من “اعترافات” بوش الابن فيما خص الدور الأميركي- الفرنسي المشترك في استصدار القرار 1559 الذي أخرج سوريا من لبنان، على وقع عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم الدور الأميركي الفاضح في حرب تموز 2006 التي أرادتها إدارته حربا أميركية بالوكالة على “حزب الله” وعلى سوريا انتقاما لعدم تعاونها مع احتلال أميركي “هادئ” للعراق، هذا الدرس هو أن الرهان اللبناني أو أي رهان عربي آخر على موقف أميركي حقيقي داعم لتطلعات الناس نحو الديمقراطية والعدالة والسيادة والتحرر هو رهان لا يعول عليه، وهذا ما نجح السيد حسن نصر الله في تفنيده في خطابه في “يوم الشهيد” وفي استعراض تاريخي للسياسة الأميركية في لبنان والمنطقة منذ حقبة كيسنجر ومشروعه التفتيتي للمنطقة الذي لايزال هو المشروع الأكثر ثباتا لدى الادارات الأميركية المتعاقبة رغم الباسه أثوابا ومسميات مختلفة من قبيل مشروع “نشر الحرية” الذي أشار إليه بوش في كتابه، واعترف بالانخراط به طوني بلير في كتابه هو الآخر بعنوان “رحلة” الذي تناول بلا حرج خطة “تدمير الدول” من أجل إخضاعها لمشيئة المشروع الأميركي المسمى “الشرق الأوسط الجديد”.
وما لم يفصح عنه بوش الابن في كتابه، تناوله الصحفي الفرنسي فانسان نوزيل في كتابه “سر الرؤساء” الذي عرض تفاصيل الصفقة التي عقدها بوش الابن مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لاستعادة الدفء الى علاقتهما المتوترة بسبب القرار العراقي بغزو وتدمير العراق، الذي عارضه شيراك بقوة لكنه لم يستطع وقفه أو التقليل من نتائجه الكارثية على المنطقة.
يجدر باللبنانيين إلى أي فئة انتموا، خصوصا “التيار السيادي” الذي يندرج في إطار تحالف قوى “14 آذار” أن يتوجس من أي دور أميركي بعد التجربة المرة التي عاشتها “ثورة الأرز” مع الوعود الكلامية الأميركية بدعم تطلعاتها والتي ثبت أنها وعود فارغة من أي مضمون ولم يحصد هذا التيار منها سوى الخيبة والاحباط اللذين دفعا بأحد صقور هذا التيار وأبرز عرابيه، النائب وليد جنبلاط الى اعادة تموضعه في الضفة المناهضة لـ”14 آذار” وتعزيز ارتباطه العضوي بالسياسة السورية في لبنان والمنطقة.
جنبلاط هو، للمناسبة، الزعيم اللبناني الذي يأتي على ذكره بوش الابن في كتابه كأحد الزعماء اللبنانيين الذين اعتقدوا بأن مسيرة التغيير بدأت بسبب الغزو الأميركي للعراق، و”اندهشوا” برؤية العراقيين يتوجهون بالملايين إلى صناديق الاقتراع!
ويفيد كتاب “سر الرؤساء” الفرنسي أن بوش الابن تذكر الديمقراطية اللبنانية “الهشة” فقط عندما “ذكّره” بها الرئيس شيراك وطلب اليه التعاون لانتشالها من براثن “الاحتلال السوري”. وربما لم يلتفت بوش الابن أن إدارة أميركية سابقة هي ادارة والده بوش الأب هي التي كانت قد أطلقت اليد السورية في لبنان بالتزامن مع “حرب تحرير الكويت” من غزوة نظام صدام حسين، في مطلع العام 1991.
ثمة أسباب كثيرة أيضا، لكي يتوجس أنصار المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري من المواقف الأميركية المستيقظة خلال الأيام والأسابيع الفائتة على نصرة الفريق السياسي اللبناني الذي يريد العدالة في قضية الرئيس الحريري والتي يريدها كل لبناني وعربي. فمطلب تحقيق العدالة في هذه القضية هو مطلب محق ومشروع ولا يستطيع أي صاحب ضمير انساني تجاهله. لكن التعاطي الأميركي مع هذه القضية منذ عهد بوش الابن وحتى الآن اندرج في اطار المساومات مع القوى الاقليمية المناهضة للمشروع الأميركي، ولا ضمانة هناك أن يظل الموقف الأميركي على زخمه المستجد في دعم المحكمة الدولية اذا عثرت أميركا وخصومها الإقليميون على صيغ أخرى لحل خلافاتهم بغير الوسائل المستخدمة حاليا والتي تشكل المحكمة الدولية أبرزها لممارسة الضغوط على المحور السوري-الإيراني. وهذه الريبة من الموقف الأميركي هي، على الأرجح، التي دفعت بالملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز الى محاولة نزع فتيل القرار الظني المرتقب، بالتعاون مع الرئيس السوري بشار الأسد وهي المحاولة التي لم ترق الى الادارة الأميركية التي يبدو أنها أنزلت هذا الملف عن رف الانتظار بعدما اضطرت الى التراجع عراقيا التناغم مع الرغبة الإيرانية بإعادة نوري المالكي الى رئاسة الحكومة لتأمين أوضاع عراقية هادئة تواكب انكفاءها العسكري عن العراق تمهيداً لانسحابها بالكامل العام المقبل.
والخطير في أمر المراهنة على موقف أميركي حقيقي وغير “مناور” في موضوع المحكمة الدولية هو ما يشاع بقوة في الآونة الأخيرة ومن مصادر فرنسية على معرفة بالنوايا الاسرائيلية، عن اكتمال الاستعدادات الاسرائيلية لشن حرب واسعة ضد “حزب الله” ولبنان كله، تزامنا مع صدور القرار الظني وما سيحدثه من تصدعات إضافية في التركيبة اللبنانية الهشة أصلا، وهو ما أشارت اليه صحيفة “السفير” البيروتية قبل يومين في تقرير افتتاحي يحذر من عدوان اسرائيلي وشيك على لبنان بناء على معلومات من مصادر فرنسية مطلعة على النوايا والاستعدادت الاسرائيلية وهو، على الأرجح، ما حدا بالرئيس الفرنسي ساركوزي الى ايفاد وزير خارجيته برنارد كوشنير على عجل الى العاصمة اللبنانية في محاولة لرصد تداعيات حرب اسرائيلية وشيكة على وجود وحدات فرنسية ضمن قوات اليونيفيل في إطار القرار 1701 الذي أوقف الحرب الاسرائيلية على لبنان في آب 2006.
وثمة ما يدعو الى التكهن بقوة أن التصعيد السياسي الأميركي الأخير ضد سوريا على لسان مساعد وزيرة الخارجية جيفري فلتمان والمندوبة الأميركية في مجلس الأمن سوزان رايس، مقرونا بـ”الكرم” الأميركي المفاجئ في ضخ عشرة ملايين دولار الى ميزانية المحكمة الدولية يندرج في سياق التحضير للحظة اتخاذ قرار بإعطاء الضوء الأخضر لحرب اسرائيلية جديدة تحاول حكومة نتنياهو الحصول عليه عبر اقناع الإدارة الأميركية بقدرتها على حسمها بسرعة وقوة.
وتندرج المناورة الأخيرة التي أطلقها نتنياهو أمام الرئيس أوياما خلال زيارته الحالية الى واشنطن حول نية الانسحاب من القسم الشمالي لقرية الغجر الذي استولت عليه اسرائيل في حرب 2006 في إطار إثارة الغبار السياسي للتعمية على النوايا الاسرائيلية الحقيقية في شن حرب جديدة على لبنان بعد أن استكملت الاستعدادات لها وفق مصادر غربية متنوعة، وفرنسية على وجه الخصوص.
بإزاء هذا الخطر الاسرائيلي الذي يلوح بقوة، يجدر بكل القوى اللبنانية إظهار أكبر قدر من الوعي، وتحقيق الالتقاء دون إبطاء على تحصين الساحة الداخلية، والتمسك بالمسعى السعودي-السوري الذي يشكل الفرصة الأخيرة لتجنيب لبنان تداعيات كارثية أمام العاصفة المقبلة نحوه بسرعة.
فهو ينجو لبنان من المخاطر الكيانية المحدقة به وبأكثر من إقليم في المنطقة في ظل انسداد آفاق الحلول لأكثر من أزمة إقليمية، من العراق الى فلسطين والسودان واليمن وباكستان؟
قد لا يكون اللبنانيون قادرين على رد “القضاء” لكن تضامنهم بالحد الأدنى، ربما يوفر لهم بعض اللطف فيه.
Leave a Reply