لسبب شخصي، أريد أن أحدثكم عن صديقي رائد وحش. وهو لمن لا يعرفه، شاعر جميل وصحفي مشاغب. أرسل لي مؤخراً مجموعته الشعرية “لا أحد يحلم كأحد” مع إهداء مؤثر. وبعث لي هدية إضافية، هي عبارة عن نسخة من كتاب “ترجمة البازلت” للشاعر السوري سليم بركات، وكان يهدف من وراء ذلك إيصال رسالة شخصية مشفرة. التقطت الرسالة فوراً من دون أن أقوم بترجمتها.
وسليم بركات، شاعر فوق العادة، ولكنه قليل الحظ في بلاده، فضرب في الأرض والمنافي، والتقطته منذ عشر سنوات إحدى الجامعات السويدية وفرغته للكتابة. ومنذ قراءتي الأولى لمجموعته “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” شعرت أن الرجل يتحرك في منطقة أخرى، منطقة كتابة حارة، تتداخل فيها الفصول والعوالم والأحاسيس إلى حد الإدهاش وانعدام الوزن.
والأهم من هذا كله، أن بركات شاعر كردي. هو من أكراد سوريا، ولكنه يكتب بالعربية بالطريقة التي.. يتحدى فيها أصحاب اللغة، أي نحن.. العرب، ويجبرهم في بعض الأحيان إلى الرجوع إلى المعاجم. هو إذن كردي يستعمل العربية ويتقنها أكثر من أبنائها. وقد استطاع ذلك الشاعر القادم من الشمال السوري إنجاز مغامرات لغوية وشعرية في تجربة مازال كبار النقاد والباحثين يتهيبون الاقتراب منها، لعمقها وخطورتها وقساوتها وغرابتها. فاللغة عند بركات ليس أداة تعبير. إنها التعبير نفسه، الذي ويا للمفارقة قد لا يفضي إلى المعنى!
وأسوق كل هذا الكلام، لأقول إن الهدية التي بعثها رائد من وراء البحار.. كانت تعني شيئاً واحداً، وهو تذكيري بأنني عربي، وبشكل ما طلبه إليّ.. بعدم إهمال اللغة العربية، أو التخلي عنها، بل أكثر من ذلك كانت تعني أمله فيّ.. بالاعتزاز بها، والوفاء لها. كان صديقي خائفاً عليّ من الرطانة والتأمرك!
والظريف.. أننا كنا نسهر في أحد المقاهي العربية، عندما تسلمت تينك الهديتين، وصادف أن رأى النادل (العربي) كتاب سليم بركات، فقرأ العنوان، وصمت. ثم سأل فجأة: ماذا يعني.. ترجمة البازلت؟ وكنا خمسة أو ستة أشخاص ولم نعرف بماذا نجيب على السؤال.
كانت الطريقة السريعة المتاحة لشكر رائد على الهديتين، هي إرسال رسالة على “الفايسبوك” وهذا ما حصل فعلاً. وكتبت له تعليقاً على إرسال “ترجمة البازلت” ما يلي: رائد.. شكر على الهدية، وأعدك بأنني سأظل فخوراً باللغة العربية، وسوف أظل متمسكاً بها، ليس لأسباب تتعلق بالاضطهاد كما هو الأمر الحاصل مع سليم بركات، بل لكي أجيب غداً على أسئلة الله!
ممتن أنا لصديقي رائد وحش، وأعتز بصداقته، هو الوفي لأصدقائه، وهو الذي يعكف الآن على كتابة مجموعة نصوص شعرية تحمل عناوينها أسماء أصدقائه. فرائد هو واحد من الأشخاص القلائل الذين يعتقدون أن عائلة المرء الحقيقية هم أصدقاؤه، لأنه يختارهم بمحض إرادته، واستجابة لمشاعر ودية تلمع في القلب، على عكس الأخوة والأقارب.. الذي يأتون في قائمة الأقدار التي لا يمكن للواحد منا أن يبدلها قيد أنملة.
مرة، كتبت إهداء إلى صديق لي اسمه رفعت، عند صدور مجموعتي الشعرية الأولى: إلى رفعت.. ليس صديقاً، بل أخاً أرثه ويرثني!
لا أعرف ماذا سأكتب لرائد في إهدائي القادم، ولكنني بالتأكيد سأكتب ما يدحض الاعتقاد أن “الخل (الصديق) الوفي هو أحد المستحيلات الثلاثة عند العرب”.نعم.. الصداقة ممكنة!
مرة أخرى، لا من قبيل التكرار، بل من قبيل التأكيد، لن أبتعد عن العربية وسأظل متمسكاً بها.. ليس لأسباب تتعلق بالاضطهاد كما يفعل سليم بركات، بل لكي أجيب غداً على أسئلة الله.
Leave a Reply