واشنطن – بعد هجمات ١١ أيلول (سبتمبر) الإرهابية عام ٢٠٠١ وقف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أمام الشعب الأميركي مبرراً سبب إقدام الإرهابيين على خطوتهم الى “أنهم يكرهوننا… ويكرهون حريتنا… وأسلوب حياتنا..”. ولكن على أرض الواقع أثبتت الأشهر والسنوات التي تلت الهجمات على أن الحرية في الولايات المتحدة الأميركية وأسلوب حياة الأميركيين وعمل مؤسساتهم قُلب رأساً على عقب من خلال مجموعة قوانين مستحدثة تتجدد صبيحة كل “محاولة إرهابية” فاشلة على الأراضي الأميركية، كان آخرها وضع ضوابط جديدة على الشحن الجوي بعد الكشف في مطار دبي الدولي عن متفجرات آتية من اليمن.
أحد نتائج هجمات “١١ أيلول” الكثيرة كانت استحداث “مراكز الانصهار” Fusion Centers عام ٢٠٠٣ في العديد من الولايات الأميركية لمكافحة الإرهاب بفعل جهد من وزارتي العدل والداخلية (الأمن القومي) الأميركيتين. والوزارة الثانية بدورها كانت من نتائج الهجمات وقد أسست عام ٢٠٠٢ بميزانية سنوية تفوق الـ٥٠ مليار دولار وتضم أكثر من ٢١٦ ألف موظف لتكون وزارة تعنى بحماية الداخل الأميركي من الهجمات الإرهابية والاستجابة للكوارث الطبيعية.
وبالعودة الى “مراكز الانصهار” التي تتشكل حالياً من ٧٢ مركزاً منتشرة في كافة الأراضي الأميركية (مركز واحد في ميشيغن مع نية تأسيس مركز جديد مخصص لمنطقة ديترويت الكبرى)، فإنها تثير الكثير من الجدل خصوصا لدى المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات المدنيّة وتحديدا من جهة عدم اطلاع المواطنين على قواعد البيانات التي يُبحث عنها وطبيعة المعلومات التي يُجمّعونها والأشخاص المستهدفين في عملية التجسس.
وتعمل هذه المراكز على جمع البيانات ليس فقط من خلال المصادر الحكومية بل لديها تعاون واسع مع مؤسسات استخباراتية في القطاع الخاص التي أيضا شهدت فورة كبيرة بعد هجمات “١١ أيلول” وأصبحت ميزانياتها تشكل جزءا أساسيا من الميزانية الفدرالية المخصصة للاستخبارات.
وتشير المعلومات الفدرالية الرسمية أن هدف هذه المراكز تطوير عملية تبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية الفدرالية (“سي آي أي”، “أف بي آي”، الجيش الأميركي، وزارة العدل…) والمحلية (شرطة المدينة والمقاطعة والولاية والجامعات!) والارتقاء بمستوى عملها في تحليل التهديدات المحتملة كما أن معظمها متصل بمراكز عمليات الطوارئ الفدرالية. وتلقت “مراكز الانصهار” هذه 426 مليون دولار العام الماضي من الميزانية الفدرالية بوصفها اجهزة انذار مبكر عن “الهجوم المقبل”.
ورغم ان هذه المراكز اسست لكشف المؤامرات الإرهابية أصبحت تكتسب نطاق عمل أوسع مع مرور الوقت. فحسب وزارة العدل أصبحت هذه المراكز تعمل أكثر على كشف المؤامرات التي تحاك محلياً مع تزايد الحديث في واشنطن عن خطر “الإرهاب الداخلي”.
وحالياً تسعى وزارتا العدل والداخلية الى توسيع نطاق عمل هذه المراكز، لأنه حسب تصريحات المسؤولين في الوزارتين فإن “الارهاب الداخلي” رغم خطورته يبدو نزهة بالمقارنة مع كثرة الحوادث واعمال القتل الناجمة عن الجريمة الاعتيادية. وفعلا، لقد شرعت العديد من “مراكز الانصهار” التي أُنشئت لمكافحة الارهاب في جمع وتوزيع معلومات جنائية حتى عن جرائم شائعة في شوارع الولايات المتحدة.
ويقول مسؤولون في وزارة الأمن الداخلي ان برنامجا جديدا أُعد لهذه المراكز وانها أخذت الآن تستخدم منظومة لتلقي معلومات بالغة الأهمية وفرزها وتبادلها مع الجهات ذات العلاقة.
ويلفت المسؤولون إلى انه من المبكّر الحكم على البرنامج الذي من المتوقع أن يزداد أهميته كأداة في اكتشاف المخططات الارهابية قبل تنفيذها.
ونقلت صحيفة “شيكاغو تربيون” عن الناشط المسلم الاميركي محمد الابياري الذي يعمل مستشارا لوزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) وأجهزة أمنية أخرى، انه يدعم عمل هذه المراكز نظرا لإمكاناتها الكبيرة. وأكد أن تبادل المعلومات وتحليلها ضروريان لعمل الحكومة وأداء وظائفها بفاعلية.
ولكن منتقدين يحذرون من ان هذه المراكز تنذر بمزيد من التجاوز على حقوق المواطنين وان وجودها يشكل عبئا بيروقراطيا ثقيلا.
ويشير منتقدو عمل هذه المراكز الى اعتمادها الكبير على شركات أمنية خاصة وتناقض أساليب عملها من مركز إلى آخر. ويثير هذا تساؤلات عما إذا كانت تقوم بعمل ضروري.
ويعدد ناشطون في مجال الحريات المدنية سلسلة من التجاوزات على الخصوصية بالارتباط مع عمل هذه المراكز، بما في ذلك عدم اطلاع المواطنين على قواعد البيانات التي يفتشها المحللون وطبيعة المعلومات التي يجمعونها والاعتبارات التي تحدد أولوياتهم.
وقال مايكل جيرمان الضابط السابق في “أف بي آي” والمستشار حاليا في اتحاد الحريات المدنية الأميركي ان تبادل المعلومات هدف محمود ولكنه لا يستحق تهديد الخصوصية والحريات المدنية.
أحد الانتقادات التي وجهت لـ”مراكز الانصهار” كانت لمركز في ولاية فيرجينيا في نيسان (أبريل) 2009 حيث انتقد بسبب اعتباره بعض الجامعات في الولاية ملتقاً للإرهابيين.
كما انتقد اتحاد الحريات المدنية الأميركي “مركز انصهار” في ولاية ميسوري عام 2009 بعد أن تبين أن أعماله الاستخباراتية كانت تستهدف مرشحين لمناصب رسمية من خارج الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، ومناهضي الإجهاض، والمؤمنين بنظرية المؤامرة، والناشطين المناهضين للحروب، والناشطين المسلمين.
وكان وزير الأمن الداخلي السابق توم ريدج اعترف في كلمة ألقاها في جامعة جورج واشنطن بأن الوزارة ظنت ان استحداث حشد من هذه المراكز من شأنه أن يشيع إحساسا بالطمأنينة، ولكنه أضاف “أنا بصراحة اعتقد ان عددها يزيد على المطلوب”.
يقول مسؤولون في وزارة الأمن الداخلي انه بحلول نهاية العام الحالي سيتعين على جميع “مراكز الانصهار” الـ72 ان تؤكد فاعليتها في اربعة مجالات أساسية هي قدرتها على تلقي معلومات مصنفة بشأن تهديدات محتملة من الحكومة الفدرالية، وتحليل هذه المعلومات في سياق محلي، وتوزيعها على الأجهزة المحلية، وجمع معلومات من المواطنين.
يذكر انه يعمل في هذه المراكز شبكة من الموظفين من وزارة الداخلية والشرطة المحلية أو موظفين من القطاع الخاص، كما هم على تواصل مع أفراد متعاونين في مجالات عديدة مثل رجال الإطفاء والمصرفيين وعمال النظافة. كما تقوم الشرطة المحلية بتأمين المساحة والمصادر لسير عمل هذه المراكز.
Leave a Reply