ما الذي يجمع بين فضائية ميشال عون (أو تي في) وفضائية غبريال المر (مر تي في)؟ هاتان المحطتان اللتان هبطتا علينا عبر الستالايت في الأشهر الأخيرة ضمن باقة شركة “دش نتوورك” العربية دون إرادتنا، ودون أي تعليل واف من قبل الشركة لإزالة محطة “أل. بي. سي” من الباقة العربية، “تتنافسان” عبر برنامجين إباحيين لهما صفة مشتركة: ساعة من النكات الجنسية “من الزنار ونازل” عبر برنامجي “لول” (أو تي في) و”أهضم شي” (مر تي في). في السياسة بين المحطتين ما صنع الحداد. فالمحطة البرتقالية تروج للمقاومة الإسلامية ومحطة المر تعكس وجهة نظر “المقاومة المسيحية” وبالتصنيف الرقمي اللبناني واحدة في صف “8 آذار” والثانية في صف “14 آذار”. يبدو المشهد كاريكاتوريا في السياسة عندما يتسابق المُنكِّتون على شاشة “أو تي في” مثلاً، في تمثيل نكات جنسية بالصوت والحركة على مسرح الاستديو، فيما شريط الأخبار في اسفل الشاشة يعرض تصريحا لمرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، المشهد ذاته يتكرر على محطة المر فيما شريط أخبارها يعرض تصريحا للبطريرك صفير أو لبابا الفاتيكان!
واذا صدقت الروايات أن مال الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو الذي يشغّل فضائية ميشال عون، فهذا الأمر ليس أقل من فضيحة موصوفة. أما المال الذي يشغل محطة المر فأغلب الظن أن صاحبه (غبريال المر) لا يأبه بنشر الإفساد على شاشة فضائية كسبا لـ”المشاهدين” ولإستعادة “مكانة” المحطة التي أقفلت في زمن الوجود السوري في لبنان.
يطرح هذان البرنامجان الإباحيان بامتياز، على الشاشتين اللبنانيتين، تساؤلا حول الضوابط التي تتحكم بالبث التلفزيوني الفضائي في بلد تحكمه من خلف الستارة العمامات والجبب وتتوزع على أرضه 18 طائفة يزعم زعماؤها نشر الأخلاق وتعميم الفضيلة بين الناس.
وإذا كان هذان البرنامجان الفاضحان يعرضان أمام جمهور المشاهدين اللبنانيين من كبار وصغار فيشاهده الآباء والأمهات مع أطفالهم، فلنتخيل أي عائلة لبنانية هذه التي يريدونها نموذجا للمقاومة بضفتيها “الإسلامية” و”المسيحية”. أعلم أن جهة دينية رفعت الصوت قبل فترة احتجاجا على هذا النوع من البرامج، لكن أصواتها ذهبت أدراج الرياح واستمرت العروض مع تنقيحات طفيفة تشوش على بعض المفردات بطريقة تجذب الاهتمام أكثر مما لو قيلت بوضوح! أعلم أيضا أن ثمة برامج ساخرة على جميع الفضائيات اللبنانية (باستثناء “المنار”) تزخر بالايحاءات الجنسية بل تعتمد هذه الايحاءات وسيلة أساسية لإضحاك الجمهور اللبناني والعربي الذي لم يعد يضحك إلا من شرور البلايا التي تحاصره من محيطه الى الخليج.
رب قائل أن هذه البرامج لها جمهورها “العربي” الذي ينجذب الى اغراءات الشاشة اللبنانية ولو مع مذيعات أخبار ومقدمات برامج يعرضن تفاصيل من أجسادهن أكثر مما يعرضن مواد اخبارية أوترفيهية أو “تثقيفية”. لكن حتى لو صحت هذه المقولة، فمن أجاز للقيمين على هذه الشاشات تقحيب “الاعلام” اللبناني وإنزاله الى هذا المستوى من قلة الذوق؟
ولو أن عرض هذه البرامج الموغلة في اباحيتها، يستهدف بالغين دون غيرهم وفي أوقات محددة من الليل، مثلما هو الحال مع بعض البرامج الغربية (التي كنا نشكو من مؤامراتها في إفساد عقول ناشئتنا وتخريب مشاعرها) لهان الأمر. لكن القيمين على هذه الشاشات يبدون غير مكترثين بما تنشره من إفساد وتدفع اليه من انحلال طالما أن “التمويل” ميسّر، وغض الطرف عن هذا الاسفاف الأخلاقي متوافر تحت غطاء الاصطفاف السياسي مع هذا الفريق أو ذاك من فريقي الانقسام اللبناني، بل يمكن الجزم أن هذا النوع من البرامج يتوخى أصحابه والقابلون به أيا كانوا، تسييد الغرائز وتضحيل سلطة الأخلاق المتبقية في المجتمعات الشرقية المسلمة والمسيحية على حد سواء، بعد تغييب سلطة الدولة لكي يتسنى لهم الاستمرار في الاعتلاء على أكتاف “الجماهير” بعد تحويلها الى كتل من الغرائز التي لا تتحكم بها أية سلطة لعقل أو أخلاق.
مر لبنان بحرب أهلية طاحنة دامت خمسة عشر عاما لكن الاعلام آنذاك، ورغم الغياب التام لسلطة الدولة، مارس رقابة ذاتية حصنته من الانزلاق الى ما تتفاخر به فضائيات “السلم الأهلي” القائمة في هذه الأيام من برامج تافهة ومنحلة تستهدف آخر حصون المناعة اللبنانية.
والمفزع حقا أن جمهور الاستديو الذي يجري جلبه لإكمال الديكور الداخلي لهذه البرامج التافهة هو حصرا من المراهقين والمراهقات الذين يمكن ملاحظة العبث ببراءة وجوههم أمام الكاميرا التي تقوم باستعراضهم بشكل متقطع بينما “يبدع” بعض عجزة “المعجزة اللبنانية” من النجوم في ممارسة الدعارة اللفظية بلا أي تحرج أو حياء.
لا أعرف ما مدى شعبية هذه البرامج في أوساط الجاليات اللبنانية والعربية في المغتربات، لكن يمكنني الزعم أننا لانزال نحتفظ بـ”شرقيتنا” هنا الى حدود تخلف عنها شرقيو بلادنا كثيرا في العقدين المنصرمين. وأعرف أن أرباب عائلات مهاجرة كانوا قد فروا بأطفالهم الى لبنان في السنوات الأخيرة من “جحيم” الحضارة الغربية، لكنهم عادوا أدراجهم بعدما يتقنوا أنهم يستجيرون من “رمضاء” الحضارة “المادية” بنار الانحلال الشرقي الذي تعرفوا اليه وصدموا باتساع مداه في بلد كان الظن أنه “ملاذ آمن” لتنشئة الصغار قبل أن يبتلعهم “غول الحضارة المادية”.
أما أسخف “نكتة” ينهي بها مقدمو برامج ثقافة الانحلال فهي إذاعتهم لـ”ديسكلايمر” (تحذير) يستغرق عدة ثوان أنهم لا يروجون للمخدرات والتحشيش عندما يكرسون نكاتهم لتمثيل تعاطيها وآثارها على المتعاطين على مدى ساعة كاملة!
لقد باتت معظم الفضائيات اللبنانية منبرا إما لثقافة الإفساد أو لثقافة التحريض والتعصب، وقد قطعت شوطاً مهما في إذلال العقول اللبنانية المقيمة وتعطيلها وفي تحويل أصحابها الى عبدة لشياطين السياسة وها هي تقدم لهم وجبات شبه يومية مسمومة من برامج ظاهرها الترفيه وجوهرها الاحتقار والتسفيه.
لبنان ليس بحاجة الى حوار وطني مزيف حول “استراتيجية دفاعية”. لبنان بات بحاجة الى حوار وطني حقيقي حول استراتيجية أخلاقية للدفاع عما تبقى من “شعوبه” من آفات الإدمان على المخدرات وتجارة الجنس ومنع هذا البلد الصغير من التحول الى بيت كبير للدعارة والانحلال بعدما كان وطن الاشعاع والنور.
.. هذا اذا أريد لهذا البلد أن يبقى على وجه الخارطة.
Leave a Reply