لم ينتبه اللبنانيون بشعوبهم وزعماء طوائفهم الدينية وتياراتهم السياسية إلى وجود “حكيم” مغمور في صفوفهم طيلة السنوات الأخيرة التي لفت لبنان بأزمته المستعصية وملفاتها المتفجرة.
كانت زيارة رئيس الوزراء التركي الى لبنان يومي الأربعاء والخميس الماضيين مناسبة ليكتشف اللبنانيون ذلك “الكنز” السياسي والوطني في شخص النائب الأرمني هاغوب بقرادونيان الذي انبرى محذرا –لا فض فوه- من أن مواقف رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الداعمة للبنان وللقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية ليست إلا “مسرحية” على اللبنانيين التنبه لها خصوصا أنها تغطي على الاتفاقات العسكرية والاقتصادية والتجارية المعقودة مع اسرائيل ومنبها من إعطاء دور لتركيا في المنطقة تستغله لمصلحتها غير آبهة بمصالح الآخرين.
والنائب الأرمني الذي “تذكر” جده وأيام “سفر برلك” “يذكرنا” بأن اعتراضه وأرمن لبنان على زيارة الطيب التركي لا يتوقف عند المآسي التي خلفها الحكم التركي بالشعب الأرمني إبان الحرب العالمية الأولى بل يشمل “ما ارتكبه الأتراك أيام الحكم العثماني الذي نصب أعواد المشانق لعدد من رجالات الوطن اللبناني” أيام لم يكن هنالك أرمن في لبنان بعد.
بقرادونيان يرى إذن، أن دعم حكومة أردوغان ورعايتها لأسطول الحرية الذي توجه لكسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة، وسقوط تسعة شهداء أتراك على متن السفينة “مرمرة” ومواقف أردوغان وزعماء حزب العدالة الإسلامي الحاكم منذ العام 2003 بكل العواصف السياسية التي شهدتها العلاقات التركية-الإسرائيلية ليست سوى “مسرحية” لتحقيق مصالح تركية وإهمال لمصالح الآخرين.
ولا ندري إذا كان حلفاء تركيا من عرب الممانعة وعلى رأسهم سوريا قد سارعوا الى تحليل مواقف “المُنظّر” بقرادونيان والى اعادة النظر بكل الاتفاقات ومن بينها إتفاق الشراكة الاستراتيجي الذي أبرمه الرئيس السوري مع أردوغان قبل نحو عام، تداركا لما فاتهم قبل أن يقرر النائب الأرمني فتح أبواب حكمته السياسية على مصاريعها ودعوتنا إلى الحذر من النوايا التركية الاستعمارية الجديدة في المنطقة.
كأن اللبنانيين والعرب كانوا غافلين عن حقيقة أن للدول مصالح تسعى إلى تحقيقها، وكأن كل التدخلات التي تشهدها ساحاتهم منشؤها غرام بمصالحنا وحرص علينا من الفتن والحروب الداخلية التي لم تكن يوما إلا ترجمة قذرة وتجليا أسود للصراعات الإقليمية والدولية من حولنا.
لكن لو نسينا للحظة النشاز الأرمني في لحن الاستقبال الحار الذي لقيه طيب تركيا في العاصمة اللبنانية وبعض المناطق الأخرى التي زارها مدشنا مشاريع تنموية وإنسانية أسهمت الدولة التركية في إطلاقها وانجازها وأبرزها المستشفى التخصصي الراقي في منطقة صيدا، والتفتنا الى الخطاب السياسي الذي أطلقه الزعيم الاسلامي التركي من بيروت وعكار وصيدا، والذي جدد التحذير لإسرائيل من مغبة إطلاق حرب جديدة ضد اللبنانيين والفلسطينيين ودعاها الى الاعتذار من شعوب المنطقة على الجرائم التي اقترفتها بحقهم، فإننا لا يمكن أن نغفل أن الدولة التركية التي يقود دفتها “حزب العدالة والتنمية الإسلامي” قد حققت تغييرا جذريا في رؤية دولة أتاتورك الى الصراع الجاري في المنطقة بين المشروع الاستعماري الغربي الذي تشكل إسرائيل رأس حربته، والجهد التحرري العربي والاسلامي الذي يكافح للحد من السيطرة على مصائر شعوب المنطقة وثرواتها..
ولم يعد خافيا أن الاشارات التركية التي أطلقت في السنوات الأخيرة قد جعلت صناع السياسات الدوليين في منطقة الشرق الأوسط يعيدون جدولة هذه السياسات على ضوء إعادة التموضع التركي بأوجهه السياسية، (والأمنية الى حد كبير) بعدما لعبت تركيا على مدى نحو قرن دور الحليف السياسي والعسكري الاستراتيجي للدولة العبرية مما أتاح لها مرونة الحركة في اتخاذ قراراتها السياسية والعسكرية وفي إطلاق الحروب واحتلال الأراضي وارتكاب المجازر والافلات من المحاسبة، حتى الأخلاقية، على جرائمها.
فعندما ينبري أردوغان محذرا اسرائيل، من فوق أرض عربية، بأن أي اعتداء جديد تقوم به ضد لبنان أو غيره لن تقتصر أضراره على اللبنانيين أو العرب، بل ستطال الإسرائيليين حتماً، وعندما يعلن “أن لبنان انتصر على إسرائيل في حرب تموز وسينتصر عليها في أي حرب قادمة”، وعندما يدعو الى “أن تكون المنطقة كلها في موقف واحد ضد القتلة الإسرائيليين” فإننا أمام موقف تركي مختلف جذريا عن المواقف التقليدية التي كانت تقتصر على الإدانات الشكلية وبيع المواقف الإعلامية للعرب.
فالموقف التركي، منذ الامتناع عن تسهيل الغزو الأميركي للعراق ورفض منح الأجواء والأراضي التركية لقوات التحالف الغربي، شهد ثباتاً وتطوراً نحو الابتعاد عن إسرائيل ورعاتها الدوليين وانحيازا لا لبس فيه إلى القضايا العربية، في المحافل والمنتديات الدولية والذي بلغ ذروته في تسيير قافلة أسطول الحرية لكسر الحصار على غزة وسقوط شهداء أتراك على متن السفينة مرمرة، في رسالة اسرائيلية دموية موجهة الى حكومة أردوغان التي سارعت الى وضع علاقاتها مع الدولة العبرية في ثلاجة انتظار اعتذار اسرائيلي صريح عن جريمة مرمرة وتحمل كامل نتائجها المعنوية والمادية.
ومثلما تسهم مواقف أردوغان، العروبية بامتياز، في ردع إسرائيل عن القيام بمغامرات عسكرية جديدة أو تضع، في الحد الأدنى، قيودا على حرية اتخاذ قرارات بشن حروب جديدة على الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، تسهم الزيارة اللبنانية لأردوغان في صب المياه الباردة على رأس الفتنة السنية-الشيعية التي تلوح في أفق الوضع اللبناني، في أكثر اللحظات السياسية والأمنية حراجة على أبواب صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتعزز من شبكة الأمان العربية المتمثلة بالجهد السوري-السعودي، بتعويض البعد المصري عن هذه الشبكة لأسباب لها علاقة بمأزق خلافة الرئيس المصري والمشاكل الداخلية التي يواجهها نظامه مع حركة الإخوان المسلمين والتيارات السياسية الأخرى المعارضة، وبمشكلة “الأقباط” التي شهدت في الأيام الماضية أحد أكثر أوجهها تمظهرا في الاشتباكات بين متظاهرين أقباط ورجال الأمن المصريين وسقوط قتلى وجرحى.
ولعل الكلام العاقل، لكن الحازم، الذي قاله أردوغان في بيروت وعكار وصيدا فيما خص الانقسام المذهبي في لبنان، وتعهده بالعمل مع السوريين والسعوديين على تجنيب لبنان تداعيات كارثية على مصير وحدته، والحرص على وقف مسلسل الآلام الذي عانى منه اللبنانيون، جدير بالشكر والتقدير، وليس بالتشكيك والتحذير، على لسان النائب الأرمني بقرادونيان الذي، وإن كنا نتفهم مأساة أجداده مع حكم الخلافة العثمانية السابقة، والتي لم يكن الأرمن وحدهم من عانوا منه، إلا أننا أمام “تركيا جديدة” لا ينفع اللبنانيين والعرب نبش مآسي التاريخ معها واستحضار “سفر برلك” لغايات محلية ضيقة بدا أن بقرادونيان مهتم بها أكثر من اهتمامه بتبريد أجواء الفتنة التي اذا ما اندلعت لن يسلم هو وأرمن لبنان من شررها بالتأكيد.
وعلى أمل أن يصمت النائب الأرمني الفائز بالتزكية في دائرته الانتخابية، بفضل التسويات على الطريقة اللبنانية، نقول له بمحبة، وعلى الطريقة اللبنانية أيضاً: يرحم جدك عيرنا سكوتك لأن البلد لا يتسع لقضية أرمنية في الوقت الحاضر!
Leave a Reply