يقول السعوديون في مجاملاتهم الاجتماعية عند مخاطبة بعضهم البعض “طال عمرك”، وهذا التعبير من أرقى أنواع المجاملات، وأكثرها تعبيراً عن الود والذوق واللياقة، لأنه.. لا أحبّ على قلب المرء من أن تطول حياته، ويمتد عمره…
وكنت أحب أن أكتب عن مناديل أم كلثوم وألوانها وعن غمزة سميرة توفيق وإيحاءاتها الشقية، وعن وجه فيروز وملامحه الباردة، ولكنني وجدت نفسي منجذباً وواقعاً في فخ الكتابة عن الفنانة صباح.. لا لشيء، إلا بسبب عمرها المديد والطويل.. “طال عمرها” أكثر فأكثر.
والبعض يحب أن يسميها الشحروة، والبعض الآخر يبجلها فيسيمها الأسطورة، والبعض الآخر يفضل أن يكون رسمياً فيسميها الفنانة صباح، وأنا أفضل.. أن أسميها: الصبوحة!
والصبوحة كانت في أحيان كثيرة موضوعاً لأحاديث الناس، وتعليقاتهم، ونكاتهم، وخاصة لجهة كثرة زيجاتها، ولخضوعها لعمليات التجميل الكثيرة، قبل أن تصبح تلك العمليات “موضة” يتبعها الكثيرون، رجالاً ونساءً.
وأنا أحبها للأمرين معاً. لزيجاتها العشر (المعلنة) أو الأكثر، بما فيهم ارتباطها بـزوجها الأسبق “الفنان” فادي لبنان، الذي استغل اسمها وشهرتها وعلاقاتها ومحبة الناس لها، لكي يروج اسمه و”فنه”. والأنكى.. أن الصبوحة كانت على علم بذلك، ولكنها لم تنزعج، ولم تكف عن مساعدة فادي.. الذي انطفأ نجمه بعد طلاقهما، وهذا يثبت كم هي الصبوحة إنسانة معطاءة وفنانة حقيقية. معروف ومفهوم.. أن الشخص الحقيقي.. لا يخاف من وجود الآخرين ولا يناحرهم ولا يكيد لهم، بل يخلق الفرص أمامهم ويساعدهم على الوصول إلى أهدافهم، من دون أن يشعر بالغيرة، ومن دون أن يشعر بالخسارة، فالكريم يزيده الكرم رفعة وشأناً، والبخيل يزداد وضاعة مهما فعل! لقد ساعدت الصبوحة الكثيرين، فلم يأفل نجمها، ولكن أين هو “فادي لبنان” الآن، ومن يسمع به، ومن يعيره شأنا؟
وأحبها، لأنها كانت السباقة إلى إجراء عمليات التجميل وكانت الأكثر جرأة في هذا المضمار، حباً منها بالشباب والحيوية والجمال. ومن منا لا يحب الشباب والحيوية والجمال؟ ومن منا ذلك الذي يبخل بكل ما يملك مقابل الحفاظ على شبابه وجماله؟ وعمليات التجميل.. هي الحل الممكن الأوحد حتى الآن، وكونه حلاً أوحد، فهذا يدل على كم هو الإنسان مخلوق سيء الحظ، لأنه الكائن الوحيد الذي يدرك ويشعر بتقدمه بالسن، وهو الكائن الوحيد.. الذي يعي موته، والوعي بالموت.. هو جحيم الإنسان!
لا يضيرني أبدا، أن أرى الكثيرين، وخصوصا النساء، وهن يخضعن لعمليات التجميل، بما فيها العمليات الجراحية، التي يغيرون بواسطتها شكل أنوفهن وخدودهن وشفاههن، لأن هذا السلوك في عمقه وفي معناه الحقيقي، الرغبة في هزيمة التجاعيد ومشاعر الشيخوخة، ويعني أيضاً.. طرداً وزجراً لشبح الموت.
والموت.. كشعور قاتم ومؤلم يراود جميع الناس ويقض مضاجعم ويبخر سعادتهم وأفراحهم. وقد كان الأمر كذلك على الدوام فمنذ بدء الخليقة والموت يقهر الناس. وبالمناسبة فإن أقدم الأساطير المدونة، أسطورة جلجامش، تدور قصتها حول هذا الموضوع بالذات، وتقول القصة باختصار شديد: إن جلجامش الذي كان ثلثا إله وثلثه الآخر بشرياً، أخافه الموت، فأراد أن يحصل على سر الخلود، واهتدى إلى ذلك السر بعد معاناة طويلة ومريرة، وسفر شاق قطع خلاله بحور الظلام السبعة، وحين وجد أخيراً “عشبة الخلود” لم يشأ أن يأكلها لوحده، بل أراد الرجوع بها إلى مدينته وشعبه، ليشاركه الناس بأكلها، فيحوزون مثله على الخلود ولا يموتون، ولكن الذي حصل أن جلجامش تعب في طريق العودة، فوضع العشبة بجانبه ونام، وجاءت أفعى وأكلتها.. فحازت على الخلود.. ومن أجل هذا مايزال الناس، خاصة في ثقافتنا الشعبية، يعتقدون أن الأفاعي لا تموت، بل تعيش ألوف السنين، ولهذا فهم يسمون الأفعى: حية. أي بمعنى.. أنها لا تموت!
وعودة، إلى التعبير السعودي وإلى الصبوحة، أود من أعماقي أن أراها وأن أقول لها: أنت جميلة.. طال عمرك!
Leave a Reply