في لبنان سباق بين الحل والانفجار، لما قد يصدر من قرار ظني عن المدعي العام للمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي تشير كل التسريبات الإعلامية، والإيحاءات السياسية اللبنانية والعربية والدولية، إلى أنه سيتهم عناصر من “حزب الله” في الجريمة، وقد تطابقت كل المعلومات المسربة على أن التحقيق الدولي يستند إلى عاملين أساسيين في القرار، هما المناخ السياسي الذي سبق العملية، وشبكة الاتصالات التي رُصدت، وتُظهر أن عناصر من الحزب ومنهم من هو مسؤول فيه، أجروا اتصالات أثناء وقوع التفجير في موكب الحريري، تشير إلى تورطهم فيه.
هذه المزاعم التي يتم تداولها منذ أربع سنوات وبالتواتر، وبدأت تظهر في وسائل الإعلام تعاطى معها “حزب الله” بجدية لجهة كشف فبركتها، والى دور العدو الإسرائيلي فيها مستنداً إلى اختراقه لشبكة الاتصالات الخليوية والثابتة في لبنان، وهو ما كشفه اجتماع الاتحاد الدولي للاتصالات الذي انعقد في مؤتمر بالمكسيك، وأدان القرصنة الإسرائيلية، كما أن الهيئة المنظمة للاتصالات في لبنان وهي جهة رسمية، بينت بالوثائق والأدلة العلمية والتقنية عن اجتياح إسرائيلي للشبكة في لبنان.
وإزاء هذا الجو المخابراتي الذي يتهم “حزب الله”، فإن أمينه العام أعلن أنه سيقطع كل يد تمتد على أي عنصر من عناصره، لأنهم ليسوا قتلة، بل مقاومين ومجاهدين، وهو فتح المعركة مع المحكمة الدولية، ومن يقف وراءها من دول لاسيما أميركا وإسرائيل اللتين ليس لهما سوى هدف واحد النيل من المقاومة وقطع رأسها وتصفيتها، وهي لذلك تدافع عن نفسها، ولا تسعى إلى تفجير الوضع الأمني، كما يدعي فريق “14 آذار” ومن يحالفه من جهات خارجية، لأن العدالة التي ينشدها الرئيس سعد الحريري ومن معه، يجب ألا تكون مزورة ومفبركة، كما ظهر من خلال شهود الزور الذين ضللوا التحقيق كما اعترف الحريري نفسه، والذي لم يتحرك باتجاه المجلس العدلي في لبنان، للكشف من يقف وراءهم، وهو بذلك يساعد على تضليل التحقيق في مكان ما، ويعمل على حرفة عن كشف الحقيقة الفعلية، وهو ما تصدى له “حزب الله” وحلفاؤه وقرروا، أن يفتحوا ملف هؤلاء الشهود، كما باشروا بوضع أدلة وقرائن ومعلومات تضع إسرائيل في فرضية واحتمال أن تكون متورطة في الجريمة، لكن التحقيق الدولي، لم يتجاوب مع ما تم تقديمه من قبل السيد نصر الله، بل تم التغاضي عن أدلته، واتجه التحقيق بعد أن أبعد سوريا عن الاتهام الذي كان سياسياً كما قال الحريري ليتجه نحو “حزب الله” وهو المقصود في كل ذلك، تحت عنوان واحد إنهاء المقاومة، باتهامها باغتيال الحريري، وزجها في صراع داخلي، واقتتال مذهبي، ووضعها في موقع المتهم الذي تتشوه صورته النضالية، وجهاده المقاوم، وهو هذا ما تريده المؤامرة من اغتيال الحريري، وقد تصل إلى مبتغاها، بعد خمس سنوات وأكثر من الشحن الطائفي والمذهبي، والسياسي والتضليل الإعلامي وتزوير الشهود والوقائع، الذي مارسته قوى “14 آذار” ضد المقاومة، وتصوير سلاحها، على أنه مستمر وباقٍ للاستخدام الداخلي، والسيطرة على الدولة، وسلب قرارها، وشل مؤسساتها، وفرض ثقافة على اللبنانيين لا يريدونها، وإظهار الجانب المذهبي من المقاومة.
فالاتهام بحق عناصر من “حزب الله” لن يمر دون مواجهة وأن إسقاطه بات أمراً مشروعاً، لأن ما يقال بأن يقوم الحزب بتسليم المتهمين ومتابعة محاكمتهم لإثبات براءتهم، هو كلام يقصد منه، قبول الحزب بالقرار الاتهامي، وبالمحكمة الدولية، ووضع رقبته تحت سيطرتها، ومتى وقف عنصر واحد من “حزب الله” في قفصها، فإن العنصر التالي هو أمينه العام السيد نصرالله، وتكون إسرائيل وأميركا حققتا بذلك، ما لم يتمكنا من تنفيذه في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان ومقاومته في صيف 2006، وبذلك تكون المحكمة هي أداة إسرائيلية وأميركية، ينفذ من خلالها عدوان على المقاومة التي قرر “حزب الله” مواجهتها من هذا الجانب، مهما كلف الثمن وهو بذلك يدافع عن وجوده وعن الظلم الذي سيلحق به.
من هنا، فإن القرار الاتهامي، هو لغم إسرائيلي للانفجار بالمقاومة وبلبنان، وتقوم المساعي لنزع فتيله، وقد اهتمت سوريا والسعودية بذلك، وبدأتا منذ أشهر اتصالات ولقاءات، لمنع صدور القرار المفبرك، ووقف أعمال محكمة بدأت مظاهر التسييس تظهر عليها، وقد استند “حزب الله” وحلفاؤه ومعهم سوريا، إلى الدور الذي مارسه شهود الزور في اللعب بالتحقيق وتوجيهه سياسياً ليبنوا موقفهم من قرار مستند إلى التسييس أيضاً.
وسعت القيادتان السورية والسعودية، من أجل وقف صدور القرار، والتدقيق في التحقيق، والتمهل في إطلاق يد المحكمة، لأن مفاعيل ما قد يصدر لجهة الاتهامات المفبركة، ستكون مدمرة للبنان، وهو ما بدأ يقلق القادة اللبنانيين، وزعماء دول، لا سيما وأن إسرائيل بشّرت بأن القرار الظني سيحدث فتنة في لبنان، كما أن المسؤولين الإسرائيليين من سياسيين وعسكريين وأمنيين، اعترفوا بتورطهم في اغتيالات بلبنان، وزرع عملاء فيه، والتنصت على اتصالاته، كما في تقديم معلومات إلى التحقيق الدولي، مما يشير إلى أن الفتنة تصنعها إسرائيل وتريدها وستفجرها، لأنها بذلك تصفي المقاومة إذا استطاعت، وتغرقها في المستنقع اللبناني، دون أن تقوم هي بحرب ستكون مكلفة عليها.
لذلك نشطت المبادرات والاتصالات خلال الأشهر الأخيرة، لمنع انفجار الوضع في لبنان، وقد سعى العاهل السعودي الملك عبدالله، بعد القمة الثلاثية التي عقدها في بيروت مع الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان، إلى أن يجمّد القرار، ونجح في أن يؤخره إلى ما بعد منتصف كانون الأول بعد أن كان متوقعاً صدوره في أيلول الماضي، وهو الشهر الذي قال رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي غابي أشكنازي إنه سيكون أسوداً في لبنان، لكن الحوار السوري السعودي تمكن من أرجائه ثلاثة أشهر وأضاف ثلاثة أشهر أخرى حتى آذار المقبل، لكن الإدارة الأميركية لم يرق لها ذلك، واستجابت للطلب الإسرائيلي بضرورة صدوره لإحداث الفتنة. وأرسلت موفدها جيفري فيلتمان إلى الرياض، وتم أبلاغ القيادة السعودية أن توقف تعاطيها في موضوع القرار، وأن تجمد حوارها مع سوريا، وهو ما أبلغه الدبلوماسي الأميركي إلى الرئيس سعد الحريري أن يتمهل في ملف شهود الزور، وأن يتباطأ في الحوار مع السيد نصر الله، كما حث قوى “14 آذار” على التصعيد الداخلي بوجه المقاومة، كما طلب من رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط ، أن يبقيا في نقطة الوسط ولا يقتربا من المعارضة، لأن القرار الظني سيصيب مقتلاً من “حزب الله” وسيقضي عليه.
فالسباق بدأ بين مسعى سوري وسعودي لمنع الانفجار في لبنان، تؤيده إيران وتركيا وقطر ودول أخرى، وبين دور أميركي وإسرائيلي تخريبي تؤيده دول أوروبية وأخرى عربية تتقدمهم مصر، يؤكدون على دور المحكمة بالاقتصاص من “حزب الله”.
وهذا السباق بين الحل السوري-السعودي، وبين التفجير الأميركي-الإسرائيلي، فإن لبنان في منطقة رمادية، بين الاستقرار والانفجار، ويبدو أن أصدقاء لبنان، يبذلون كل الجهود للحفاظ على السلم الأهلي والوحدة بين اللبنانيين، وهذا ما أكد عليه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي جاءت زيارته للبنان استكمالاً لزيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وليس على نقيض منها، لأن خطاب كل منهما الأول في عكار شمالي لبنان، والثاني في بنت جبيل جنوبي لبنان، كان واحداً، لجهة تحديد العدو للبنان والعرب والمسلمين، وهو إسرائيل التي باتت تنظر إلى كل من تركيا وإيران، على أنهما في “محور الشر”، لأنهما يحتضنان القضية الفلسطينية، التي تخلى عنها حكام العرب، لتملأ الفراغ أنقرة وطهران، اللتين تتقدمان في العالم العربي، وتحتلان مساحة كبرى في وجدان الشعوب العربية، التي لم تعد تسمع خطابات العداء لإسرائيل، إلا من المسؤولين الأتراك والإيرانيين، حتى في لبنان، فإن خطاب أردوغان في عكار كان خطاباً فلسطينياً عربياً مقاوماً، حاول “تيار المستقبل” تغييبه لصالح شعار لبنان أولا، وإخراج الطائفة السنية من محورها العربي الوحدوي المقاوم، واستخدامها في صراع مذهبي ضد المقاومة، وإلحاقها بمشروع أميركي شرق أوسطي يخدم إسرائيل.
لقد كانت زيارة الطيب أردوغان، كما زيارة المتواضع نجاد، درع حماية للبنان، ومنع انزلاقه نحو الفتنة المذهبية، إذ أن الرجلين وما يمثلان، لم يقدما في خطابيهما ومواقفهما ونصائحهما إلى اللبنانيين سوى عبارة واحدة، هي الوحدة الوطنية التي تقفز فوق العصبيات المذهبية، التي أثارها حكام عرب، حيث تحدث العاهل الأردني عن هلال شيعي، والرئيس المصري عن أن ولاء الشيعة ليس لأوطانهم بل لولاية الفقيه في إيران، وهو الشعار الذي يردده فريق “14 آذار” في لبنان مما يدل أن القيادتين التركية والإيرانية، أحرص على لبنان، من بعض زعماء العرب، الذين ينظرون إلى المقاومة نظرة عداء، ويزجون بمجاهديها في السجون كما حصل في مصر.
فالرئيسان نجاد وأردوغان، أمّنا مظلة واقية للبنان، من احتمال وقوع حرب أهلية فيه، وهما مع أمير قطر ورئيس وزرائه يدعمون الحراك السوري السعودي، ويبقى على سعد الحريري أن يماشيهم في هذا الاتجاه، وهو أعلن أنه لن تكون فتنة في لبنان، ويبقى عليه أن يترجم كلامه إلى أفعال، ولديه من الوسائل الكثير، ويكفي أن يعلن أن القرار الظني مشكوك فيه، طالما لم يتعقب التحقيق الدولي مسؤولين إسرائيليين اعترفوا بدورهم ومسؤولياتهم في جرائم في لبنان واستباحة اتصالاته، بعد أن اعترف بتضليل شهود الزور للتحقيق.
فمن سيربح في السباق، الحل السوري والسعودي المدعوم عربياً وإقليمياً، أم التخريب الأميركي الإسرائيلي، الذي أمسك بالمحكمة كأداة تفجير في لبنان، والمطلوب إزالتها وإلغائها، كما طالب وليد جنبلاط.
Leave a Reply