لم يعد السؤال يدور حول صدقية أو “اخلاقية” الأخبار التي تغزو حواسيبنا وهواتفنا وشاشاتنا على مدار الساعة في عصر القرية الكونية الواحدة. بات السؤال عن اهداف أية حملة إعلامية تغزونا ومن يقف وراءها وما هي نتائجها على مستوى التعامل الدولي، بصفته “علاقات دبلوماسية” أو علاقات عامة أو مجرد مكائد ينصبها القوي للضعيف لإحراجه تمهيدا لإخراجه.
بعد أن فاجأ مواطن استرالي “عادي” يدعى جوليان آسانج العالم بتلك “العاصفة” الإعلامية من الوثائق أو البرقيات الدبلوماسية التي تربط بين الخارجية الأميركية وسفاراتها على سطح الكوكب وبهذا الكم الكبير، يتبادر السؤال أولا عن مدى قدرة شخص بمفرده على تحقيق هذه الاستباحة غير المسبوقة لبئر المعلومات الأميركي بما هو مخزن لأسرار الدولة العظمى الوحيدة التي حيرت على مدى أكثر من قرن شعوبا وأنظمة، وانتجت نظريات عديدة للمؤامرة، معظمها ظل يقع في باب التخيل الناجم عن عدم القدرة على قراءة سهلة لسياسات الولايات المتحدة وإداراتها لأكثر من صراع رئيسي في هذه القارة أو تلك.
للوهلة الأولى بدا آسانج كـ “بن لادن إعلامي” وهو ينفذ ما بدا “11 ايلول دبلوماسي” على المصالح الدبلوماسية الأميركية في عشرات الساحات الكونية من أقصى الأرض إلى أقصاها. ولتقتصر ردة الفعل الأميركية الأولى على نوع من الإدانة الناعمة قبل أن تدفع الجرعة الثانية من “التسريبات” بوزيرة الدبلوماسية الأميركية الى النطق لإعادة التأكيد بحزم على ثقتها التامة و”فخرها” بسفراء وقناصل الخارجية الأميركية والعمل “الوطني” الناجح الذي يؤدونه لخدمة مصالح بلدهم.
وإذا لم يكن من سرب البرقيات الدبلوماسية الأميركية الى الاعلام هم قناصل وسفراء أميركيون، فمن يكونون؟
فالدولة التي تملك السيطرة على نظام عمل الشبكة العنكبوتية وتشرف على خدماتها العالمية وتتحكم بمحركات البحث العملاقة مثل غوغل وغيرها، وتمتلك معظم الأقمار الاصطناعية ذات الطابع العسكري والمدني، وفوق ذلك كله ذلك النفوذ الهائل على سياسات واقتصادات الدول الحليفة كيف تعجز عن منع حفنة من الأشخاص من نوع آسانج من العبث بأمنها الدبلوماسي ووضع علاقاتها مع العديد من البلدان التي وثقت بها في مهب العواصف الانترنتية دون أن تقدم على أي حراك؟
يصعب التصديق أن الإعلامي الإلكتروني الأسترالي جوليان آسانج يتمتع بالقدرة على هزيمة كل الاحتياطات والإجراءات السرية الأميركية، بدون مساعدة غير مباشرة من جهاز ما، وفي مكان ما في شبكة التحكم الأميركية بضخ المعلومات الى الرأي العام.
وهذه المساعدة لا يمكن أن تأتي إذا لم يكن ثمة تساهل متعمد خلف الستار لإيصال ذلك الكم من المعلومات والوثائق الى “صعاليك الانترنت” تمهيدا لاستخدامها بهدف “الإساءة” الى الدبلوماسية الأميركية بهذه الصورة الفظة.
لا يمكن التقليل من شأن المعلومات التي نشرها موقع “ويكيليكس” وهي معلومات دقيقة الى حد كبير، الا اذا افترضنا أن بعض الدبلوماسيين الأميركيين يقومون بايهام رؤسائهم في الخارجية الأميركية بما هو غير الواقع على أرض عملهم وهذا افتراض مستبعد، لكن هذه التسريبات تطرح العديد من الأسئلة والتكهنات خصوصا حول توقيت خروجها الى العلن.
فالولايات المتحدة تعيش مرحلة من الانكفاء عن أكثر من ساحة نفوذ وتواجه أكثر من مأزق عسكري ودبلوماسي في مناطق حساسة للأمن القومي الأميركي. والدبلوماسية الأميركية شهدت أكثر من إخفاق بارز على مدى العقد الماضي. لكن بعيدا عن “أخلاقية” التسريبات من عدمها، والتي لا تغير من واقع حدوثها شيئا، فإن حصولها لا يبدو بعيدا عن أيد وعقول تعمل على خلط عنيف للأوراق الأميركية وأجنداتها في أكثر من بقعة عالمية، وإثارة عاصفة من الغبار للتعمية على الأهداف الحققية للتسريبات التي لا قد لا تكون سوى خطوة أولى في اعادة نظر شاملة لأولويات السياسية الأميركية بإزاء عدد من الملفات والقضايا المتوترة. لنلاحظ أن الدبلوماسية الأميركية، على سبيل المثال أوضحت للسلطة الفلسطينية قبل أيام قليلة إخفاقها في إقناع حكومة نتنياهو تجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة! ولنلاحظ ما سبق للدبلوماسية الأميركية أن رتبته بخصوص الوضع العراقي وتخليها عن حصان الرهان الفائز في الانتخابات العراقية الأخيرة لصالح “تسوية” مع خصمها الاقليمي اللدود، المتمثل بايران ومنحها نفوذا غير مسبوق على الساحة العراقية، واستعدادها لتكريس هيمنة النظام السوداني على إقليم دارفور بعد كل الضجة المثارة حول جرائم الإبادة الانسانية التي اتهمت بها نظام عمر البشير، مقابل انفصال هادئ لجنوب السودان عن شماله في الاستفتاء القادم.
ولنلاحظ أيضا أن جزءا أساسيا من هذه التسريبات طال الحلفاء العرب “المعتدلين” وإشكالية مواقفهم أو ازدواجيتها فيما خص العلاقة بالجار الخليجي الإيراني الصاعد، وكيف أن التسريبات تظهر “مقاومة أميركية” لرغبات عربية –اسرائيلية مشتركة لتوجيه ضربة عسكرية الى ايران.
فهل أرادت الولايات المتحدة افتعال “فضيحة” لدبلوماسيتها لخدمة أغراض أبعد تتصل بفضح تردد بعض الحلفاء وتمرد آخرين (تركيا مثلا) في تبرير إخفاقها في ارساء نظام اقليمي-دولي جديد ورمي كرة النار في أحضان الحلفاء لدفعهم إما الى حسم خياراتهم أو الى مواجهات سياسية وعسكرية والدخول في فوضى “غير منظمة” تغطي على الإخفاق الأميركي؟ وهل تخدم التسريبات سياسة أميركية جديدة قيد التشكل تقوم على النأي عن التدخل المباشر في قضايا وملفات شائكة لم تعد الولايات المتحدة بأوضاعها الاقتصادية والمالية المعقدة قادرة على إدراتها بالوسائل التقليدية للدبللوماسية الأميركية القائمة على مبدأ النفس الطويل، والقتل التدريجي لطموحات أمم وشعوب في تحقيق نفوذ يوازي صعودها الاقتصادي والتقني.
أسئلة تبقى بحاجة الى إجابات، قد تبدأ بالبروز مع مرور الأشهر والسنوات القليلة القادمة، والتي قد لا يكون نجاح الأنتربول الدولي خلالها في “العثور” على جوليان آسانج وتوقيفه خبرا مهما، لأن التهمة التي وجهتها إليه السويد، لا علاقة لها بالتسريبات بل بجريمة “اعتداء جنسي” و”اغتصاب”!
Leave a Reply