لم تكن التقارير التي كشفها موقع “ويكيليكس” لمؤسسه جوليان أسانج، والتي تضم حوالي 250 ألف وثيقة مرسلة إلى وزارة الخارجية الأميركية من سفرائها في الخارج، إلا “11 أيلول دبلوماسي”، وحدث دبلوماسي هزّ العالم، وطال لبنان الذي يحتوي الموقع نحو 2500 تقريراً عنه.
ففي عالم الدبلوماسية، والأعراف الدولية، لا يكشف عن مثل هذه التقارير إلا بعد مرور ربع قرن وأكثر، ولا تسمح الدول الاطلاع على محفوظاتها وأرشيفها الدبلوماسي، إذا كان يعرّض أمنها وأمن مواطنيها للخطر، إلا أن ما فعله موقع “ويكيليكس” أنه كسر الأعراف وتخطى المحظور، وأطلق أسئلة في العالم، حول سرية العمل الدبلوماسي، كما فتح الباب لتساؤلات عن شبكة المعلوماتية، وعن دور المواقع الالكترونية، التي أحدثتها “ثورة الاتصالات”، التي يمكن الدخول عبر تقنيات معينة إلى مواقع الكترونية تخص دولاً أو أفراداً.
لقد شكّلت تقارير “ويكيليكس” صدمة في العالم، لما تضمنته من معلومات، ووصفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ما حصل بأنه اعتداء على المجتمع الدولي، وانشغلت الإدارة الأميركية في معرفة كيف حصل أسانج على هذه التقارير وبهذه الكمية، فقيل أن مجنداً من مثليي الجنس يدعى برادلي مانينغ عمره (23 سنة) هو من قام بتسريب أقراص إلى أسانج، الذي اعتقل في لندن، بعد حملة دولية عليه، وصلت إلى طلب محاكمته وإعدامه، بعد أن سرّبت أخبارا عنه، أنه اعتدى جنسياً على إحدى الفتيات في السويد.
فالعالم انشغل بفضائح “ويكيليكس” التي وصلت إلى لبنان، حيث أظهرت التقارير التي نشرت عن مدى انخراط قوى “14 آذار” في المشروع الأميركي وما نقلته الوثائق من معلومات، تفضح ممارسات أطرافا في السلطة من فريق الأكثرية، حيث سمّت كل الشخصيات المنضوية في “ثورة الأرز”، بأنهم كانوا يزوّدون السفارة الأميركية بمعلومات عن المقاومة والمعارضة، كما يضعون الخطط مع السفراء الأميركيين الذين تعاقبوا على العمل في لبنان، من ديفيد ساترفيلد إلى جيفري فيلتمان وميشيل سيسون، وقد بيّنت محاضر الاجتماعات التي عُقدت مع كل من الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة، والنواب والوزراء وليد جنبلاط والياس المر ومروان حمادة ورئيس حزب الكتائب أمين الجميّل ورئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” سمير جعجع إلى شخصيات أخرى، كيف أن هؤلاء متورطون في العمل لصالح المخططات الأميركية في لبنان والمنطقة، وتُسقط عنهم شعارات السيادة والاستقلال والقرار الحر، إذ أظهرت تقارير “ويكيليكس” على أن قوى “14 آذار” كانوا تحت الوصاية الأميركية كاملة، وهم يأتمرون بأوامر سفرائها، ولا ينفكون يحرضّون على أطراف لبنانية أخرى لا سيما “حزب الله” بضرورة إنهاء وجوده وضربه عسكرياً، لا بل كشفت التقارير عن اندفاع وزير الدفاع الياس المر بالتحريض على “حزب الله”، وهو نفى ما نُسب إليه، كما أوردت التقارير مدى تورّط النائب مروان حمادة عندما كان وزيراً للاتصالات مع الإدارة الأميركية، في نزع شبكة اتصالات “حزب الله”، الذي أصدرت حكومة فؤاد السنيورة قراراً في 5 أيار 2008 بذلك، والذي أدى إلى أحداث 7 أيار، حيث وصف الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله حكومة السنيورة بـ”حكومة فيلتمان” الذي كان سفيراً لأميركا في لبنان أثناء صدور القرار الذي كان هو وراءه.
وفي التقارير أن جعجع شجع السفيرة الأميركية سيسون على دعم شخصيات شيعية مناهضة لـ”حزب الله” وسمى احمد الأسعد، كإبن بيت سياسي، وضرورة أن يعطى إمكانات مالية لاستقطاب الشيعة، وهو ما حصل، وتداولت المعلومات أنه تلقى قبل الانتخابات النيابية في العام 2009، مبلغاً كبيراً من المال يقدر بحوالي 25 مليون دولار لصرفه في الانتخابات، حيث بدأ بتجميع “الأسعديين” وتقديم الدعم المالي لهم مع سيارات، كان يتمّ إحراقها أو تفجيرها من جهات لم يكشف التحقيق هويتها.
وذهب جعجع في أحاديثه مع السفيرة سيسون إلى دعم عقاب صقر، الذي أصبح نائباً، لإعداده ليكون رئيس مجلس نواب “14 آذار”، وقد رشّح نفسه لهذا المنصب بعد الانتخابات النيابية، حيث يلفت دفاع صقر الدائم عن جعجع وزياراته الدائمة له.
أما لقاءات الرئيس الحريري مع الدبلوماسيين الأميركيين، فكانت ووفق ما نشر فيها الكثير من العتب، على الانفتاح الأميركي على سوريا، إضافة إلى ما ذكر عن أنه كان يستعجل ضرب “حزب الله” وإنهاء وجوده العسكري.
وأخطر ما في التقارير، أن الرئيس السنيورة وافق على أن تقوم طائرات أميركية بمسح جوي للأراضي اللبنانية.
ولم توفّر التقارير النائب وليد جنبلاط الذي كان يركز اهتمامه على معرفة ما سيحصل بين الإدارة الاميركية وسوريا، ونقل أحد التقارير أن المحكمة الخاصة ليست كافية لإخافة سوريا.
وفي الجانب الأبرز من تقارير “ويكيليكس”، هو ممن كشفته عن تدخل أميركي مع لجنة التحقيق الدولية، منذ ترأسها ديتليف ميليس إلى سيرج براميرتس ودانيال بيلمار، حيث كشفت إحدى الوثائق عن أن براميرتس قال لفيلتمان “إن تطبيق أي معايير دولية على قضية توقيف الضباط الأربعة (جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان) سيؤدي إلى إطلاق سراحهم فوراً، وسيكون بمثابة الكارثة السياسية في لبنان”.
وفي موضوع الضباط الأربعة، فإن وزير العدل شارل رزق، قال وفق إحدى الوثائق وفي جلسة جمعته بتاريخ 30 نيسان 2008 مع الناب جنبلاط في منزله في كليمونصو، بحضور السفيرة سيسون ووزير المهجرين نعمة طعمه ورئيس مجلس القضاء الأعلى انطوان خير إلى “أن على بيلمار منع لجنة التحقيق الدولية من تبرئة الضباط الأربعة المتهمين بالمشاركة في اغتيال رفيق الحريري لأن اللوم كله سيقع عليّ”.
وتوضح التقارير التي تسربت حتى الآن عن مدى تسييس التحقيق والتدخل الأميركي فيه، وهو ما يؤكد عن وظيفة سياسية لإنشاء المحكمة الدولية، وهي ليست معرفة الحقيقة في اغتيال الحريري، بل الوصول إلى المقاومة ومحاصرتها ونزع سلاحها ومحاكمة قادتها، وهو الأمر نفسه الذي كان سيحصل مع سوريا مع بداية التحقيق، وهو الوصول إلى رأس النظام فيها ومحاكمة الرئيس بشار الأسد، إذ كانت قوى “14 آذار”، تراهن على أن التحقيق الدولي سيصل إلى الرئيس السوري في اغتيال الحريري، بعد أن سُرّبت معلومات عن تهديده له، قبل التمديد للرئيس إميل لحود.
فالتقارير الصادرة عن السفارة الأميركية في بيروت، لا يمكن التشكيك بها، وقد اعترف النائب جنبلاط بصحتها وأكد صدقيتها مئة في المئة، ولم يتم نفي ما ورد فيها من ما وردت أسماؤهم فيها، سوى أنها غير دقيقة، كما قال الحريري الذي كشفت إحدى التقارير، أنه سأل الأميركيين لماذا احتلوا العراق وليس إيران، كما أن الوزير حمادة تحدث بشكل لا ينفي ما ورد على لسانه حول شبكة الاتصالات، ومثله فعل الوزير المر الذي أشار إلى أي حديث معه حول “حزب الله” لم يحصل.
ولكن سواء أكّد جنبلاط صحة التقارير، أو حاول البعض التملص منها، إلا أنه يبقى أنها كشفت عن تورط فريق لبناني مع الأميركيين، وهو تعامل مع أجنبي ضد لبنان حيث يتبيّن مدى انخراط قوى 14 آذار في المخطط الأميركي الهادف إلى السيطرة على لبنان، وإنهاء المقاومة فيه، وقطع علاقاته مع سوريا، وجره إلى سلام مع إسرائيل، وهذا هو برنامج “ثورة الأرز” التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، كما غيرها من الثورات في العالم، كما ادّعت، وصرفت على لبنان حوالي 500 مليون دولار أميركي، باعتراف فيلتمان أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي قبل أشهر، وأن وراء صرف هذه الأموال، هو تشويه صورة المقاومة والقضاء عليها.
فبعد اعتراف فيلتمان بالتدخل الأميركي في لبنان، ونشر تقارير “ويكيليكس” هل يمكن أن تمر هذه الفضائح التي وصفها أقطاب في المعارضة السابقة بأنها خيانة موصوفة، ولا بدّ للقضاء أن يتحرّك، كما على الرأي العام اللبناني أن يقول كلمته، لا سيما وأن الوثائق المنشورة لم يمر عليها زمن، وهي تعود لعام أو أكثر، وأن أخطرها ما يتعلق بالتحقيق الدولي باغتيال الحريري الذي جاءت الوثائق لتثبت ما يدعو له “حزب الله” وحلفاؤه من ضرورة وقف أعمال المحكمة الدولية المسيّسة، والتي تعمل لصالح المشروع الأميركي–الإسرائيلي، وقد أعطت هذه الوثائق أدلة دامغة من أجل عدم التعاون مع هذه المحكمة التي فقدت صدقيتها عند أكثرية اللبنانيين، وباتت الدعوة إلى إلغائها مطروحة نيابياً وحكومياً وسياسياً، لأنها لا تستند إلى دستورية لبنانية، بسبب عدم إقرارها في المؤسسات الدستورية التي كانت معطلة بسبب الانقسام السياسي اللبناني، واعتكاف وزراء المعارضة ثم استقالتهم فيما بعد، وفقدت الحكومة التي كان يرأسها السنيورة شرعيتها الدستورية والميثاقية، فأُقفِل مجلس النواب بوجهها، كما أن رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، رفض ترؤس جلساتها، وقد تمّ تمرير الاتفاقية بين الأمم المتحدة ولبنان، بطرق غير دستورية، وهو يعني استعادة هذه الاتفاقية ودراستها من جديد في المؤسسات، ووقف التمويل عنها وسحب القضاة اللبنانيين منها، إلا أن هذا الموضوع ردّت عليه أميركا بدعم تمويل المحكمة بعشرة ملايين دولار، وهو أمر لافت لهذا الاهتمام الأميركي بالمحكمة، حيث غاب عن مجازر وجرائم ارتكبتها إسرائيل في لبنان، ولم تقبل أن تشكل محكمة دولية من أجل لبنان لمحاكمة إسرائيل على جرائمها، وهو الأمر نفسه ما حصل في غزة,
فالفضائح السياسية التي كشف عنها موقع “ويكيليكس” وضع قوى “14 آذار”، أمام سؤال وطني حول دورهم منذ العام 2005، في الانخراط بالمشروع الأميركي، الذي أظهر وبعد خمس سنوات، أنه زعزع الاستقرار، واتجه بلبنان نحو اقتتال داخلي، وأعطى الضوء الأخضر لإسرائيل بشن عدوان صيف 2006، كما طلب من حكومة السنيورة، نزع شبكة اتصالات المقاومة، وتدخل في التحقيق الدولي باغتيال الحريري، ورفض إخراج الضباط الأربعة من السجن، ووفّر أموالاً لسياسيين وصحافيين لشن حملات على المقاومة.
كل هذه الوقائع توجب على القضاء أن يستند إلى هذه الوثائق، ويعتبرها إخبارا، والاستماع إلى من ورد اسمه فيها واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحقه.
Leave a Reply