تحتاج وثائق “ويكيليكس” المرتبطة بشؤون لبنان الى الكثير من الدراسة والبحث والتحقيق، لا بسبب عددها -الذي يناهز الأربعة الاف وثيقة- فقط، بل كون توقيت “تسريب” هذه الوثائق وأسلوبها والسياق العام لناحية مواضيعها يطرح العديد من الأسئلة المنطقية. ولئن استفاض المحللون والصحفيون في طرح هذه الأسئلة، فإن التدقيق في نقاط محددة ذكرتها وثائق “ويكيليكس” في مراحل معينة من تاريخ لبنان القريب يستدعي الوقوف عندها.
أحد هذه المسائل ما تناولته وثيقة تستعرض لقاء وكيل وزارة الخارجية الأميركية وليام بيرنز بمدير الموساد مائير داغان، بتاريخ الحادي والثلاثين من آب (أغسطس) 2007، حين كشف داغان أن “الولايات المتحدة وإسرائيل على حافة تحقيق شيء ما في لبنان، لهذا لا يمكنهما تحمل التخلي عن حذرهم. ما هو ضروري هو إيجاد الطريقة الصحيحة لدعم رئيس الوزراء (فؤاد) السنيورة”.
تُكمل الوثائق اللاحقة في تقديم سياق واحد يفيد نفس المعنى: واشنطن وتل أبيب كانتا تنويان تنفيذ “عمل ما” في لبنان في الفترة الممتدة ما بين اخر العام 2007 وحزيران العام 2009، موعد الانتخابات النيابية اللبنانية.
التمحيص قليلا في احتمالات هذا العمل يقود الى جملة ملاحظات:
– لا يمكن ايراد احتمال الحرب ضمن الاحتمالات كون كلام داغان واضح في وضع “العمل” ضمن خانة المعالجة الموضعية في سياق خدمة سياسة أكبر وأشمل. أضِف الى أن الأجواء المرتبطة باستعدادات الجيش الاسرائيلي في تلك الفترة لم تكن أبدا تؤشر الى جهوزية او استعداد لخوض جولة جديدة مع حزب الله بعد اقل من سنتين على انتهاء “حرب تموز”.
– يوحي كلام داغان بقوة أن المقصود كان عملا أمنيا كبيرا من شأنه تعزيز نفوذ الفريق اللبناني الذي ترى تل أبيب في فوزه بالانتخابات النيابية امرا “ايجابيا”، بحسب عدة وثائق سربتها “ويكيليكس” تباعا.
– يعزز فرضية العمل الأمني المسار الذي سلكته الأحداث في لبنان، ووصلت الى ذروته بإصدار الحكومة اللبنانية قرارها الشهير في الخامس من أيار 2008 مستهدفة سلاح اتصالات “حزب الله”. ردُّ فعل الحزب على قرار الحكومة جاء ضمن سياق مفاجئ بالنسبة لواشنطن آنذاك، لكنه لم يستدعٍ تدخلا عسكريا اسرائيليا او أميركيا؛ ما يعني أيضا ان خطط العدوان ضد لبنان لم تكن جاهزة حينها، وما يعزز فرضية العمل الأمني.
– الملاحظات الواردة أعلاه تقود تلقائيا الى أن العمل الأمني المقصود كان يرتبط بـ”هدف” يتطلب الوصول اليه ايجاد بيئة سياسية عامة معادية لـ”حزب الله” بمستواها الأقصى (تكفي الإشارة الى حالة الشارع عشية قرار الحكومة حول سلاح الاتصالات واحداث السابع من ايار)، كما يتطلب مستلزمات “تقنية” قد يكون التخلص من شبكة اتصالات “حزب الله” أحد أبرز عناصرها.
بغض النظر عن حقيقة وطبيعة هذا العمل الأمني، وكون تحديده يفترض أيضا معطيات لن تكون بطبيعة الحال علنية، فإن ما يلفت المراقب في تسريبات “ويكيليكس”، التي تواكب هذه المرحلة من تاريخ لبنان الحديث، هو التحوّل الملحوظ في رؤية تل أبيب وواشنطن للوضع في لبنان عقب فوز قوى “١٤ آذار” بالانتخابات النيابية مباشرة.
هذا التحوّل يعكسه كلام العديد من المسؤولين الاسرائيليين في وثائق “ويكيليكس”؛ وأهمها تلك الصادرة بتاريخ الثلاثين من تموز العام 2009 من السفارة الأميركية في تل أبيب متناولة لقاءً بين مسؤولين حكوميين اسرائيليين. يختصر مساعد وزيرة الخارجية الاسرائيلية للشؤون العسكرية والسياسية اندرو شابيرو التبدل في الرؤية الاسرائيلية ازاء لبنان في هذا الإجتماع بأن أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله تأدبّ بعد الانتخابات؛ وهو ما وافقه عليه عدد من الباحثين الحاضرين في الجلسة، مضيفين أن سبب خسارة الحزب للانتخابات يعود الى “تأثير الأموال السعودية وعدم استقرار معسكر المعارضة”.
في الضفة المقابلة، أورد السيد نصر الله، في خطابه الشهير ثاني أيام صدور نتائج الإنتخابات، “انفاق الأموال والتحريض الطائفي والمذهبي” ضمن اسباب هزيمة المعارضة، لكن كلاما منقولا عنه، في جلسات مغلقة، في أوساط المعارضة آنذاك، يُضاف اليها تسريبات في الصحف عن مسؤولين في الحزب أو في المعارضة تؤكد أن نتائج الانتخابات “لم تفرز وقائع جديدة يمكنها أن تغيّر من الوقائع السياسية الداخلية”، وأن هزيمة المعارضة ظلت في حدود “الخسارة المعنوية”.
ربما لم تدرك المعارضة يومها حقيقة ما كان يُدّبر للبنان في تلك الفترة، غير أن أحد كبار الصحفيين المقربين من المعارضة كتب آنذاك –في فورة غضبه مستهزءا – أن في “حزب الله” من كان يجيب على سؤال حول اسباب الهزيمة في الانتخابات بعبارة من دعاء “ولعلّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور”.
وإن كان من حواشي الفلسفة الخوض في تبرير الخسارة الواقعة والناجمة بالتأكيد، في جزء منها، عن تقصير سياسي، فإن اجواء نُقلت من العاصمة السورية حينها ذهبت الى التأكيد بإن فوز المعارضة كان ليضع لبنان كله في مواجهة المجتمع الدولي.
بعيدا عن هذا النقاش، يبقى المؤكد أن القادم من وثائق “ويكيليكس” سيحكي –عن غير عمد- الكثير مما كان يُحاك للبنان خلال السنوات الأخيرة.. وربما الكثير مما تكرره شريحة سياسية عريضة في الخفاء والعلن منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
Leave a Reply