ليس أدل على حالة التردي والهوان العربي من “اعتراف” الرئيس الأميركي باراك أوباما لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإخفاق جهوده في إقناع حكومة بنيامين نتنياهو بتجميد مؤقت لعملية الاستيطان، وهي المحاولة التي بنت عليها الإدارة الديمقراطية الأميركية آمالا كبيرة لدفع عملية التفاوض المباشر بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
ولعلها من المرات النادرة في السياسة الخارجية الأميركية التي يفصح فيها الأميركيون عن عجزهم أمام التنعت الإسرائيلي ويجاهرون بهذا العجز دون الأخذ بالحسبان انعكاس الفشل الأميركي على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
الإعلان الأميركي يمثل نعيا غير مباشر لمهمة المبعوث الرئاسي الخاص السناتور الأميركي جورج ميتشل وجولاته المكوكية الى دول المنطقة، ونصرا مجانيا للتنعت الإسرائيلي، لكنه يظهر حقيقة أن الانقسام الفلسطيني بين سلطة رام الله، الشريك الضعيف في عملية السلام وسلطة غزة الغارقة في مشاكل القطاع وبؤسه، والمتفرغة هذه الآونة لضبط “أخلاق” الشارع الغزاوي، هو ما منح حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل أحد أقوى أسلحتها للتنصل من موجبات عملية السلام كما وضعت أطرها الرباعية الدولية سابقا والإدارة الأميركية لاحقا.
لقد علق العرب والفلسطينيون آمالا عريضة على جهود الرئيس الأميركي منذ انتخابه منذ أكثر من عامين، لكنهم لم يفعلوا شيئا لتعزيز مطالبهم المحقة وآثروا انتظار “غودو أميركي” لم يأت إلا ليعلن هزيمته الدبلوماسية أمام اسرائيل بعدما خسر معركة الانتخابات النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وانكفأ الى الخطوط الخلفية من المواجهة لإعادة استجماع قوته من أجل الدفاع عن بقائه في البيت الأبيض بعد أقل من سنتين.
هكذا يجد الفلسطينيون أنفسهم مرة جديدة في فراغ الجهود الدبلوماسية وعقمها، ومرة أخرى يتلاشى حلم “الدولة” الموعودة أمام جدار التعنت الإسرائيلي وانسداد آفاق الحلول على هدير آلات الاستيطان التي تقوم بقضم تدريجي لما تبقى من أرض الدولة الفلسطينية الموعودة.
وبين مواقف الإدارة الأميركية المحاصرة بالابتزاز الإسرائيلي ومسلسل فضائح “ويكيليكس” التي أجهزت على ما تبقى من ثقة بعض العرب بدبلوماسية الدولة العظمى، لم يعد لدى الفلسطينيين أي حافز للوثوق بأن هذه الدبلوماسية، بأوجهها المعلنة والخفية، تستحق منهم الانتظار مرة أخرى أو تجريب ما جربوه على مدى عدة عقود دون أي طائل.
ومن سخرية الأقدار أن يتواكب التراجع الاميركي المخزي أمام حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل، مع اندفاعة أميركية-لاتينية، لرسم صورة الدولة الفلسطينية في التصريحات الاعلامية التي حملت الينا في الأسبوع الفائت “اعتراف” كل من البرازيل والأرجنتين بهذه الدولة، و”احتمال” أن تقدم دول أميركية لاتينية أخرى على اللحاق بهما (الأوروغواي). ولعل قطبا السلطة الفلسطينية يتساءلان بمرارة عما يحمله من جدوى، اعتراف بعض دول القارة الدائرة في الفلك الأميركي بدولة فلسطينية في حين ترمي الدولة العظمى، وراعية وجود اسرائيل آخر أسلحة الضغط وتعلن استسلامها لمشيئة اللوبيات الاسرائيلية تاركة آفاق الحلول مفتوحة على مدى لا ينتهي فيما أرض الدولة الموعودة تتعرض للتآكل اليومي على أيدي قطعان المستوطنين.
لكن الأخطر من الخضوع الأميركي لمنطق الاستيطان اليهودي فيما تبقى من أراض فلسطينية هو الاندفاعة الاسرائيلية باتجاه تحويل “عرب الدولة” من مواطني درجة ثانية الى “هنود حمر” تمهيدا لإجلائهم عن أرضهم أو حصرهم في تجمعات معزولة، واعلان صفاء الدولة من أعراق غير يهودية.
تؤشر الى هذا المنحنى المتصاعد، التوصيات التي أصدرها حاخامون متطرفون والتي يكبر مؤيدوها ككرة الثلج، حول منع بيع أو تأجير مبان سكنية لغير اليهود.
فتحول اسرائيل الى دولة فصل عنصري على غرار نظام “الآبارتيد” السابق في جنوب افريقيا يكتسي يوما بعد يوم أبعاده الواقعية.
ومن البديهي أن هذا المنحى الاسرائيلي المتسارع نحو صفاء يهودية الدولة، ينذر باقدام اسرائيل ورعاتها على نثر وتنمية البذرة العنصرية في دول وكيانات الجوار عبر إثارة الفتن الطائفية والمذهبية وتشجيع نشوء كيانات عنصرية على غرار كيانها، لمحاولة العثور على تبرير “اخلاقي” لكيانها العنصري الذي يستكمل آخر مواصفاته “القانونية” تمهيداً لتظهير خارطته الديموغرافية في المستقبل المنظور.
ولعل نظرة بانورامية على المشهد العربي والاسلامي الراهن بكل تراجعاته وانهياراته تفيد بأن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي نظّر له عتاة المحافظين الأميركيين الجدد إبان عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش لايزال حيا لكن “الجديد” فيه أن كياناته القائمة وتلك التي ستستحدث من أفغانستان وباكستان الى العراق والسودان (وربما لبنان) سوف تولد من رحم نظريات عنصرية وستؤدي وظائف اقتتالية ذات طابع عرقي وطائفي ومذهبي، لا تخفى اشاراته. بل إن الاستعداد النفسي لخوضه يبدو مكتملا بانتظار الانفجار الكبير الذي يهدد المنطقة العربية والاسلامية بأكملها بانهيارات متتابعة وفق “عامل الدومينو”.
وعلى ضوء هذا السيناريو المرعب الذي يلوح في أفق المنطقة يبدو أن حكام الخليج العربي، قد التقطوا اشاراته القوية. وما صدر في ختام قمتهم في أبو ظبي يوحي بأنهم يبذلون المحاولة الأخيرة للحفاظ على استقرار كياناتهم وتحييدها عن العاصفة المقبلة على المنطقة، فيما يعيش الفلسطينيون واللبنانيون أوج عصر انقساماتهم ويرفعون أسلحة التخوين بعضهم ضد البعض الآخر. أما اسرائيل فترفع سلاح ابتزازها لرعاتها الأميركيين والغربيين المتمثل بـ”حلف المتطرفين” الذي تتهم طهران برعايته.
لقد عول عرب كثر على المواجهة بين ادارة أوباما وحكومة نتنياهو وأقاموا في قصور من أوهام، ليثبت مرة جديدة أن المهم ليس ما تقوله الادارة الأميركية بل ما تفعله.
وما فعلته حتى الآن، كل الادارات الأميركية المتعاقبة كان في خدمة المصالح والسياسات الإسرائيلية على حساب كل المصالح العربية، ولسبب بسيط أفصحت عنه بجرأة مؤخرا الإعلامية الأميركية المخضرمة هيلين توماس ودفعت ثمنا له: الصهاينة يسيطرون على الكونغرس والبيت الأبيض وهوليوود وول ستريت.
على ماذا يسيطر العرب؟
لقد فقدوا السيطرة حتى على ثرواتهم التي باتت ترصد إما لصفقات أسلحة بمليارات الدولارات مثلما شهدنا مع صفقة العصر التي عقدتها المملكة السعودية مع الولايات المتحدة قبل أشهر قليلة.
أو على استضافة مسابقة كأس العالم التي “فازت” بها قطر، وستصرف على الاستعداد لها ما يقدر بـ 55 مليار دولار من الآن وحتى العام 2022! يحكى أن جزءا من هذا المبلغ سيخصص لـ “تغيير المناخ” في الدوحة التي يبلغ معدل درجات الحرارة فيها خلال فصل الصيف 104 درجات على مقياس فهرنهايت أو 40 درجة مئوية!
Leave a Reply