إنه فيلم لبناني طويل فاشل في السيناريو والحوار والإخراج والإنتاج لكنه ناجح في التملق والتمثيل، والممثلون هم الطبقة السياسية وعتاة الكيانية الطائفية المتحالفة مع الخارج المعادي لكل ما هو وطني. شبه الكيان، بعد تسريبات “ويكيليكس”، لم يترك زيادة لمستزيد وبالتالي فإنه إستحق فعلاً لقب “البطولة” في إرتهان بعض السياسيين للخارج على حساب السيادة الوطنية الداخلية التي تغنى بها طويلاً زبانية النظام “الديمقراطي” الطائفي وورثها اليوم “أيتام جون بولتون” الثوار. كما نال النظام، الذي شبه لهم، المرتبة الأولى في السيبان والتفلت وتسليم رقبته للهيمنة الخارجية وإنكشافه أمام العدو انكشافاً كاملاً، وفي إنشاء طوابير للعدو وأحصنة طروادة وجواسيس وشبكات تعامل ومتحالفين معه والذين بدلاً من معاقبتهم، كما يقتضي المنطق والقانون، تراهم يصبحون من القوة الفاعلة على “طاولة الحوار” الذي لا ينتهي، وفي قصور الرؤساء وأصحاب العروش العرب. لبنان يكاد يكون البلد الوحيد في العالم الذي يكافأ فيه العميل ويحاسب فيه المقاوم، والبلد الفريد الذي من قلة الزلم يصبح فيه العقاب صقراً!
كم من بلد في العالم لا يثأر لكرامته عندما تقوم “لجنة تحقيق” تحت ذريعة العدالة المحقة، التي يراد بها باطل، وكشف حقيقة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي هز لبنان من أقصاه إلى أقصاه، تقوم بتعرية الوطن من كل خصوصياته ومعلوماته وبيانات أبنائه الشخصية وسجلاتهم وأرقام ضمانهم ورخص القيادة وكل مكالماتهم الهاتفية طيلة عامٍ كامل مسترقة السمع على أدق تفاصيل حياتهم الحميمة، حتى كامل سجلات النساء الحوامل واتصالاتهن بأزواجهن، وسجلات أبنائهن في المدارس العامة والخاصة، والخافي أعظم، ثم تذهب هذه المعلومات كلها إلى العدو الإسرائيلي؟ في بلدٍ، مثل لبنان، الشرف الوطني مفقود بسبب إستمرار الخلاف منذ “الإستقلال” المزعوم على من هو العدو ومن هو الصديق، عدا عن أن العمالة أصبحت وجهة نظر!
البعض قد يسأل ما الخطر من الحصول على سجلات التلاميذ في المدارس؟ والواقع أن هذه السجلات المدرسية هي الكنز الكبير والصيد الثمين للإستخبارات الإسرائيلية (الموساد) التي اكتسبت هالة أسطورية بسبب إنتصاراتها السهلة على أنظمة العرب البالية قبل أن تصطدم بندها اللدود في المقاومة وتتلقى تحطيماً لهذه الأسطورة وتمريغاً لها في التراب. لكن الموساد جهاز يتحلى بنفس طويل يسمح له بأن يرعى وينمي ويرافق مراحل حياة الطلاب الذين يختارهم حسب ملفاتهم السيكولوجية والإجتماعية والإقتصادية فيجندهم ليصبحوا ألف “ايلي كوهين” ثم يزرعهم بحيث يستحيل اكتشافهم واجتثاثهم بعد تغلغلهم العميق في كل طبقات المجتمع. أن لبنان والمحاسبة خطان لا يلتقيان بإذن الله وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله! ومليون “ويكيليكس” لن يؤد إلى مراجعة أو محاسبة في نظامٍ هو أعجز عن تسيير أموره بنفسه لأن شهادة ولادته القيصرية على يد فرنسا لم تلحظ أي وجود لمعنى السيادة إلى درجة أن بعض “المؤسسين” للكيان ترجّوا الإستعمار للبقاء.
من هنا لا يتوقعن أحداً أن تتدحرج الرؤوس في هذا البلد السائب الذي بني على كمٍ هائلٍ من الباطل والأخطاء الفادحة من دون إجراء عملية نقد ذاتي لما حصل أقله من أجل الإستفادة من العبر وضمان عدم تكرار الخطأ في المستقبل. لهذا السبب تكررت الحروب الأهلية في شبه الكيان في كل عقد من عقود الزمان بينما في كل أنحاء العالم تقع حرب أهلية واحدة ثم تصبح من مخلفات الماضي السحيق والتاريخ الموضوعي والعلاجي لجروح الوطن، وتؤدي في نهاية المطاف إلى إلتحام البلد وتوحده بعد إجراء محاسبة وتقييم شاملين كما حصل في أميركا وفرنسا واليونان وغيرها من البلدان.
لكن لبنان لم يعرف الثواب والعقاب في تاريخه. وكلام ميشال المر- الفضيحة والذي بز في تطرفه مواقف إتيان صقر وشربل القسيس وبشير الجميل مجتمعين (كان الزلمي مخبئاً بثيابه)، لن يثير أية زوبعة أو إجراء قانوني طبعاً لأن الناس تعودوا على الساسة المنافقين الذين يضمرون عكس ما يقولون!
متى إستعمل العقاب أو التقييم الجدي في لبنان عبرتاريخه المزور أو حتى في العصر الحاضر؟ بل متى اتفقت المدارس في الشارع الواحد على كتاب تاريخ موحد؟ منذ ١٨٥٨ وخلال ما سمي زوراً بثورة الفلاحين التي قادها طانيوس شاهين ضد آل الخازن بذريعة محاربة الإقطاع والذي جعلته كتب تاريخ الكيان بطلاً لكنه كان في الحقيقة أداةً بيد الإنكليز والأتراك للقضاء على أعدائهم التاريخيين والسيطرة على الممر التجاري من الهند إلى لبنان، إلى مجازر العام ١٨٦٠ ثم مهزلة المتصرفية والقائمقاميتين، إلى خيانة الأمير فخرالدين المعني وقريبه الطاغية بشير الثاني، إلى “الإستقلال العظيم” الذي جاء مضرجاً بجريمة قتل الزعيم أنطون سعادة، إلى تحالف حزب “الكتائب” مع إسرائيل منذ ١٩٥١ الذي ورثته “للقوات اللبنانية”، إلى ثورة ١٩٥٨وسياسة الأحلاف المنحازة التي إتبعها كميل شمعون، إلى قتل الفقراء والعمال في “معمل غندور” واللاجئين من أبناء فلسطين، إلى إغتيال المناضل معروف سعد في صيدا؟ لماذا لا تقام محكمة دولية لمعرفة من قتل معروف سعد وارتكب المجازر المهولة بحق أبناء الجنوب والبقاع وكل لبنان؟ ألايستحق الإمام السيد موسى الصدر، إمام الوطن والمقاومة، محكمة دولية؟ بل هل جرت عملية تقييم لأطول حرب أهلية لبنانية وأسبابها ومضاعفاتها على جيلنا الذي وعى على وجهها الكريه وما زال يدفع الثمن النفسي والإجتماعي والإقتصادي بسببها؟ في أميركا، تقع حادثة في مدرسة فتهب الدولة بكامل اجهزتها من أجل معالجة حالة الطلاب النفسية أما في وطن الإشعاع والنور فالمريض يموت على باب المستشفى إذا لم يدفع كل ما يملك. وماذا عن محاسبة المسؤولين عن مجازر “السبت الأسود” ومجزرة حلبا وملف المفقودين لدى القوات والنفايات النووية وتدمير مدارس وأبنية الشهيد الحريري في كفرفالوس وشرق صيدا، أو عهد أمين الجميل والصفقات، أومحاسبة طاهية شارون المفضلة ونائلة معوض التي أرادت نزع سلاح المقاومة ودماء الشهداء لم تجف بعد في تموز (لكنها رغم ذلك حظيت بعشاء على مائدة الغضنفر الإيراني)، وأولئك الذين تمنوا على أولمرت مواصلة الحرب؟ وماذا عن معاهدات السنيورة الأمنية وبيع البلد ولغز ١١ مليار دولار والقرار المخزي في أيار؟ وماذا عن “شاي فتفت” في ثكنة مرجعيون ومفبركي شهود الزور؟ بل ماذا عن أشرف ريفي الحاكم بأمره وكأنه الأمير علاقة، الذي أصبح أعلى من الوزير حيث تدبج فيه اليافطات على الطرقات وتصك العملات المحفور عليها “عزٌ بعد فاقة، الأمير أشرف علاقة”؟ كل هذه الأحجية لن تحل في بلدٍ يتحول بغمضة عين من الحريق إلى الغريق والمواطن بينهما يدفع الثمن دوماً!
Leave a Reply