بيروت –
استمر الأفرقاء في تراشق كرة المحكمة الدولية من دون أن ينجح أي طرف في تسجيل نقاط لصالحه، ذلك أن مساعي الحل السعودية – السورية لم تُفلح في التوصل الى حل يُرضي مختلف الأطراف؛ بحسب ما أظهرت مواقف عديدة توّجَها رئيس الجمهورية ميشال سليمان بقوله، خلال فضّ جلسة مجلس الوزراء، ان “لا جدوى من التصويت” على ملف شهود الزور.
في الساعة نفسها، كان أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله يوجه الضربة الأولى من الحلقة الأخيرة من مسلسل تعرية المحكمة الدولية، في الليلة التاسعة من احياء ذكرى عاشوراء، بكشفه أن ضابط الاستخبارات الألمانية غيرهارد ليمان نائب رئيس التحقيق الأسبق ديتليف ميليس باع وثائق سرية عن التحقيق بمبلغ يناهز السبعين الف دولار لوسيط قام بتسليمها لـ”حزب الله”، مضيفا أن ليمان عرض عبر وسطاء بيع جميع وثائق التحقيق بمبلغ مليون دولار للحزب.
وفي ما يخص ملف الشهود الزور، أشار السيد نصر الله الى أن ميليس ونائبه ليمان “شركاء في تصنيعهم، وهناك قيادات سياسية وامنية في لبنان صنّعت قيادات الزور، كما أن الحكومة اللبنانية تحميهم، وهم يحمون من صنعهم”.
وردّ نصر الله بشكل غير مباشر على الذين ينتقدون عدم تحرك الحزب مبكرا لمواجهة المحكمة بالكشف أنه يعلم منذ العام 2006 بتغير مجرى الاتهام من سوريا الى الحزب الى أن “اُبلغنا” بمضمون الاتهام في العام 2008 رسميا. وتابع نصرالله أن الحزب لم يتحرك خلال الفترة الماضية بسبب “الحرص على البلد”، محذرا من اقتراب يوم “اصعب من ويكيليكس” على المحكمة.
وغمز السيد من قناة استباق أي رد فعل قد يتخذه الحزب مع صدور القرار الظني باستعراض المسار الذي سلكه في القاء الحجة على الاخرين عبر النقاش القضائي والدستوري والفني وتقديم القرائن باتجاه الفرضية الاسرائيلية، مشددا على سقوط الرهان على عزل الحزب.
كلمة نصر الله في اليوم العاشر من محرم، والتي جاءت مطابقة في المضمون لما قاله في الليلة التاسعة بخصوص الملف الاسرائيلي وملف المحكمة، سبقتها جملة أحداث بارزة في طليعتها استقالة الناطقة باسم المحكمة الدولية فاطمة العيساوي المعروفة بقربها من تيار المستقبل على خلفية “اسباب مهنية”؛ الأمر الذي استدعى ردا سريعا من رئيس القلم الخاص بالمحكمة في بيان مقتضب استبق فيه أي تفسير سياسي للإستقالة بالقول إن “الآنسة العيساوي اتخذت قرارها بالاستقالة بعد عدة أشهر من جهود الإدارة لتحسين أدائها في العمل وذلك إثر فشلها في تطبيق الحد الأدنى من المتطلبات التي وُضعت لها. لقد قدمت المحكمة خطة تحسين أداء لمساعدة الآنسة العيساوي إلا أنها لم تستجب للخطة ولا حتى حاولت أن تغير في طريقة عملها”.
بيان المحكمة لم يغلق الباب امام التحليلات، خاصة وأن استقالة عيساوي هي واحدة من ضمن سلسلة استقالات (فاقت العشرة حتى الآن) جاءت جميعها في سياق التشكيك بمهنية العمل داخل المحكمة.
وفيما يخص القرار الظني، تبارت الصحف اللبنانية في نقل مواعيد مفترضة لصدوره، تارةً ما بين مواعيد تقترب من نهاية الشهر الجاري وأخرى مؤجلة حتى آذار العام 2011. ولئن صار هامش الوقت أكثر ضيقا لاحتمال صدور القرار قبل نهاية العام الحالي، فإن المؤكد أن المسعى السعودي – السوري نجح الى حد ما في تأخيره بالحد الأدنى، قبل التوصل الى تسوية لبنانية داخلية تحفظ مطالب مختلف الأطراف وتخرج باتفاق يحفظ النظام اللبناني؛ بعد أن صار واضحا أن ارتدادات القرار، في حال اتهم عناصر من “حزب الله”، لن تقف عند حدود أحداث شبيهة بالسابع من أيار 2008، بل سيتعداها الى خطوات تمسّ بصميم التركيبة القائمة حاليا وتُحدث تغييرا جذريا في الطبقة الحاكمة.
الخشية من هكذا خطوات انعكست من خلال سلسلة الاتصالات والمشاورات التي سبقت جلسة مجلس الوزراء الأخيرة من دون أن تصل الى نتيجة حاسمة، إذ استمر رئيس الحكومة سعد الحريري في اصراره على رفض تحويل ملف الشهود الزور الى المجلس العدلي بحسب مبادرة أطلقها الرئيس نبيه بري، في حين رفضت المعارضة اقتراح الحريري المضاد بتعيين لجنة قضائية سداسية تتولى دراسة الملف، ووقف رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط في الوسط، في مشهد يتوقع المراقبون الا يستمر طويلا، مع ازدياد حدة التجاذب ومطالبة كل طرف لهذين القطبين (سليمان وجنبلاط) بحسم موقفهما بوضوح.
حراك عربي وتهويل اميركي
استهل رئيس الجمهورية ميشال سليمان نشاطه مطلع الأسبوع بسلسلة اتصالات في محاولة للتوصل الى حل، غير انّ مساعيه اصطدمت بارتباط مواقف الأطراف المعنية بالمساعي السعودية – السورية، التي شهدت بطءًا ناجما عن الحالة الصحية للملك عبد الله.
في وقت اطلقت دمشق موقفا صارما عبر رئيسها الدكتور بشار الأسد لناحية رفض الاتهام في حال صدر من دون دليل يُعتدّ به. في الموازاة لم تُهمل سوريا التحرك سياسيا باتجاه الداخل اللبناني، حيث قام وليد جنبلاط بزيارة خاصة الى دمشق التقى خلالها اللواء محمد ناصيف واللواء حكمت الشهابي، على أن يتوجه في القريب الى طهران لمزيد من التنسيق.
هذا الحراك العربي واكبته متابعة اميركية ناشطة من خلال مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان، الذي يتولى شخصيا متابعة تفاصيل الملف اللبناني.
في هذا الصدد، نقلت أوساط سياسية أن فيلتمان، حين حضر الى بيروت في 17 تشرين الأول الماضي، وزع على بعض السياسيين بشكل مباشر او عبر الرسائل النصية القصيرة بواسطة الهاتف الخلوي، معلومة مفادها انه اذا ما بلغ الوضع في لبنان حد زعزعة الاستقرار الامني، واذا ما تحرك حزب الله عسكريا في الداخل، فإن اسرائيل لن تقف مكتوفة الايدي على الحدود الجنوبية.
هذا التهويل بالحرب ردّ عليه السيد نصر الله بشكل غير مباشر، حين تطرّق في كلمته العاشورائية في الليلة التاسعة الى الجبهة الاسرائيلية متحدثا عن 3 خيارات امام تل أبيب:
– خيار المفاوضات والتسوية؛ وهو “لن يصل الى أي نتيجة لأن الاسرائيليين غير جاهزين لتقديم اي تنازلات”.
– خيار الحرب مع لبنان او سوريا او ايران او غزة او معهم كلهم، وهو خيار “غير منطقي” في الظروف الحالية، باعتبار ان اسرائيل “تعرف جيدا ان الخروج الى اي حرب في اي جبهة ان لم تكن مضمونة النتائج اي لن تكون سريعة وحاسمة وفيها نصر، فهي مغامرة كبرى وكل ما نسمعه من تهويل وتهديد هو حرب نفسية”.
– خيار “بقاء الموضوع كما هو عليه دون تسوية ولا مفاوضات بانتظار متغيرات اقليمية ودولية قد تساعد اسرائيل على الذهاب الى الحرب او التسوية”، غير أن هذا الخيار “يعطي مزيدا من الوقت لاعداء اسرائيل لأن يزدادوا متانة وقوة”.
وبعيدا عن الخوض في مؤشرات أي عدوان اسرائيلي جديد على لبنان، فإن حرائق جبل الكرمل وعجز السلطات الاسرائيلية عن معالجتها يعزز فرضية استبعاد الحرب في المرحلة الحالية.
النشاط الأمني الى الواجهة
الاحتقان السياسي في لبنان سُرعان ما تظهر ارتداداته على الساحة الأمنية. في هذا السياق، برز خبر تفكيك قيادة الجيش اللبناني لمنظومتي تجسس وتصوير اسرائيليتين في صنين والباروك. المنظومة تحوي نظاما بصريا، ونظام ارسال الصورة، ونظام استقبال اشارات التحكم بالمنظومة، وادارة التحكم بالمنظومة ومصادر تغذية المنظومة بالطاقة. وتعمل بتقنية فنية عالية، تصل الى حد كشف اهداف بعيدة المدى وتحديدها بشكل دقيق، وتحديد احداثيات اهداف ارضية لتسهيل ضربها، كما يعمل الليزر حتى حدود 20 كلم، بما يؤمن تغطية كامل السلسلة الشرقية ومنطقتي صنين والباروك والمناطق المجاورة ونقل ما يجري فيها. كما فككت فرق الجيش منظومة ثانية أكثر تعقيدا في مرتفعات الباروك.
وبحسب بيان قيادة الجيش، “يأتي العثورعلى هاتين المنظومتين نتيجة معلومات حصلت عليها مديرية المخابرات من مصادر المقاومة”.
ولم تمضِ ساعات على انجاز مخابرات الجيش والمقاومة حتى نفذّ الطيران الحربي الاسرائيلي غارات وهمية على ارتفاع منخفض فوق مدينة صيدا، رافقها القاء قنابل مضيئة ودوي انفجار تردد لاحقا أنه ناجم عن تفجير اسرائيلي في البحر لمنظومة تجسس اخرى خشية اكتشافها من قبل مخابرات الجيش اللبناني.
المشهد الأمني عاد الى الواجهة أيضا مع تلقي قصر العدل في بعبدا اتصالا من مجهول حذّر فيه من وجود قنبلة في المكان، ما اضطُر القوى الأمنية الى اخلاء المبنى لساعات واجراء مسح شامل انتهى الى الإعلان عن عدم وجود قنبلة.
وتحاول القوى الأمنية حاليا تعقب مصدر الاتصال المجهول وتحديد شخصية الفاعلين.
في خضم هذه الأحداث، بثّت الإذاعة الاسرائيلية تقريرا زعمت فيه أن الاجهزة الامنية التي تتولى حراسة رئيس الحكومة سعد الحريري تستخدم جهازا متطورا اسرائيلي الصنع.
وبحسب تقرير الاذاعة، يعمل هذا الجهاز على تشخيص عناصر معادية من مسافة بضعة كيلومترات وذلك بواسطة استخدام تكنولوجيا امواج الاثير. وتقول الشرطة ان هذا الجهاز يعمل عبر تذبذبات يصعب تعقبها واعتراضها.
ولفتت الاذاعة الاسرائيلية الى أن الشركة الاسرائيلية التي تنتج هذا الجهاز قامت ببيعه لشركة فرنسية التي قامت بدورها بامداده للحكومة اللبنانية.
ولئن سارع المكتب الإعلامي للحريري الى نفي هذا الخبر جملة وتفصيلا، فإن مصادر إعلامية عادت الى التحقيق في الموضوع. وترددت أنباء غير مؤكدة عن قيام الإذاعة العبرية ببث تقرير ثانٍ تؤكد فيه دقة تقريرها الأول معتمدة على تأكيدات أحد المسؤولين في الشركة الإسرائيلية المصنعة للجهاز، وهي DSIT Solutions المعروفة باسم “سونار تكنولوجي”، ومقرها في “جفعات شموئيل” في منطقة “رامات هاشارون” وسط إسرائيل.
وسط كل هذه الأحداث، يبقى المواطن اللبناني وحده بعيدا عن هموم الدولة وأقطابها، فلم تلقَ الدعوات الشعبية للمسارعة باتخاذ اجراءات وقائية من العاصفة التي تضرب البلاد آذانا صاغية لدى المسؤولين. وفي حين تكشفّت العاصفة الأولى عن أضرار مادية كبيرة ومقتل مواطنة في الشمال، ينظر اللبنانيون بخيبة الى بركات السماء القادمة مع وصول عاصفة ثانية أقوى من الأولى هذه المرة، ذلك أن أصغر بلدان الشرق الأوسط لا يزال يعاني في القرن الواحد والعشرين من غياب مشاريع جدية لاستثمار كميات الأمطار المتساقطة ومن فقدان الخطط اللازمة لمواكبة الكوارث الطبيعية.
Leave a Reply