كنت أتحدث مع ابني عن مجالس عاشوراء، وما أكثرها هنا في ديربورن، وسألني عن طريقة إحياء هذه الذكرى في قرى جنوب لبنان، أيام زمان؟
عدت بالذاكرة خمسين سنة إلى الوراء، عندما كانت مجالس عاشوراء بسيطة، بساطة الضيعة وبراءة الناس. كان يقوم بإحياء تلك المجالس مشايخ شبه أميين، يقرأون بأصواتهم المجردة، إذ وقتها لم تكن المزعجات المعدنية (الميكروفونات) قد وصلت إلى تلك القرى المنتشرة في الجنوب. وكان الشيخ يكسر الفاعل ويرفع المفعول به وينصب المجرور ويسكن المضاف إليه، وتنتفخ أوداجه ويذرف الدمع من فمه وهو يقرأ من كتاب قديم غير مرتب الصفحات، يعني من كل وادي عصا. لكن قراءته تلك كان فيها من المبالغة والمفارقة ما يكفي لإدرار دموع الحاضرين حرقة ولوعة على الإمام الحسين، ولحثهم على لعن بني أمية، قاتلي الحسين عطشاناً وأهل بيته في موقعة كربلاء. وكان الشيخ يختم المجلس بقوله: يا ليتنا كنا معك يا سيدي –أي في معركة كربلاء- فنفوز فوزاً عظيماً.
كان يتم إحياء المجالس في البيوت، وكان الشيخ ومعه شلته المرافقة له، يتنقل من بيت إلى بيت طوال عشرة أيام. وفي اليوم العاشر كانت بعض العائلات تطبخ الهريسة، بقدور كبيرة ويتم توزيعها على الجيران والمحتاجين بعد قراءة المجلس الأخير من أيام عاشوراء باستشهاد الإمام الحسين ومن معه.
وكان ختام المجلس هو الأصعب للسامعين، حين يسترسل الشيخ القارئ في الطلب منهم لقراءة الفاتحة لكل ميت ومتوفى يمت بصلة لمن دفع للشيخ القارئ الأجر لقراءة مجلس العزاء عن روح الحسين، لذلك كان الحاضرون يقرأون سورة الفاتحة بسرعة وعلى مضض، انتظاراً لأكل الهريسة اللذيذة والبسكوت والراحة وفي أحيان قليلة التمر، الذي كان يتم توزيعه ختاما عن روح الحسين، حيث كان النصيب الأكبر من تلك الحلوى يذهب للشيخ القارئ وشلته.
مرت سنين عديدة، وتعاقبت أجيال كثيرة في جهل وفقر وتعصب وتخلف، من قلب ذلك الزمان الصعب، وتعقيدات المؤسسة الدينية خرج السيد محسن الأمين، من بلدته شقراء، ثائراً على التقاليد السلبية والمعتقدات الفاسدة والعادات المتخلفة في التعبد والحزن على الحسين.
تجلى السيد الأمين بعلمه وذكائه وأفكاره المستنيرة وسعى جاهدا لرفع الجهل والتخلف الجاثم على عقول وفي نفوس الناس البسطاء، وسعى لإقناعهم أن الحسين ليس بحاجة للبكاء واللطم ولعن بني أمية وأكل البسكوت والراحة عن روحه الطاهرة، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحاشا أن يمسك بيده ماسورة يوم الدين ويقيس فيها دموع الباكين عليه كما أفهم الشيوخ الناس.. بأن من يبكي أكثر له الأجر الأكبر.
وقال لهم: إن تكرار مأساة الحسين وأهل بيته بهذه الصورة القاتمة المليئة بالبدع والخرافات وجعل عاشوراء وكل يوم كربلاء في غياب منطق العقل والإيمان وإدارك المغزى والمبدأ السامي الذي دفع الحسين لنيل الشهادة مظلوما ظمآنا غريبا، أبقى أجيالا من محبيه تلف حول جهلها وتخلفها تبكي وتلطم وتلعن في دائرة الحزن والزهد وعدم السعي لإثراء الحياة وإعمارها ورفض الظلم والطغيان من الحكام.
ابتسم ابني وقال لي: لن أشعر بالإحراج بعد اليوم عندما يحثنا الشيخ على التباكي حتى العويل على الإمام الحسين!
Leave a Reply