عندما عرض الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله في إحدى مؤتمراته الصحافية، عن أن الحزب استطاع أن يرصد استخبارياً، وعبر جهاز مكافحة التجسس لديه، عن عملية سينفذها العدو الإسرائيلي على الشاطئ اللبناني في منطقة أنصارية قرب الصرفند، وأورد كيف أنه من خلال متابعته لحركة الطيران الإسرائيلي، من أن يكشف هذه العملية العسكرية، التي كان لها بالمرصاد وأوقع قتلى وجرحى بعناصرها، وكان ذلك في مطلع أيلول من العام 1997، في ذلك الوقت لم تذع “المقاومة الإسلامية”، هذا الإنجاز الاستخباري، وأبقته طي الكتمان، الى أن أعلن عنه السيد نصر الله في إطار تأكيده على احتمال تورّط إسرائيل في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي استبعدها التحقيق الدولي، فجاء السيد نصر الله، ليعلن بالقرائن والأدلة عن هذا الاحتمال، من خلال عملاء إسرائيل، ودخولها على خط شبكة الاتصالات، الى تحليق طيرانها في الأجواء اللبنانية، ومن ثمّ رصده لتحرك موكب الرئيس الحريري، وتصوير الأماكن التي يتواجد فيها، ومنها منتجع فقرا في أعالي كسروان.
فالأدلة والقرائن المعززة بالصور والمستندات، التي قدمها الأمين العام لـ”حزب الله”، توقف عندها الإسرائيليون، لاسيما عملية أنصارية التي تكبّدوا فيها خسائر بشرية (13 قتيلاً من لواء غولاني) ومادية ومعنوية، حيث اعترف قادة العدو للمقاومة بانتصارها الاستخباري والمعلوماتي على الجيش الإسرائيلي، الذي تخوض معه حرب اتصالات الكترونية حديثة ومعقدة.
فهذا الإنجاز للمقاومة، التي أقرّ به العدو مؤخراً بعد المؤتمر الصحافي للسيد نصر الله في آب الماضي، وضع المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية وحتى السياسية، أمام أسئلة كبيرة من نوع، أي “عدو” هذا نواجه، الذي سجّل علينا انتصاراته سواء في إخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان في 25 أيار عام 2000، أو في الصمود 33 يوماً في حرب تموز عام 2006، وتوجيه هزيمة لأكبر جيش في الشرق الأوسط، ثمّ في ربحه معركة العملاء والجواسيس علينا، عبر تفكيك شبكاتهم بالتعاون مع الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.
فالإخفاقات الإسرائيلية، والأفشال التي تعرضت لها المخابرات الصهيونية “الموساد”، واندحار الاحتلال الإسرائيلي، أعطت المقاومة من القوة ما باتت إسرائيل تخشاها وتقلق منها، مع ازدياد ترسانة الأسلحة لدى المقاومة، لاسيما الصاروخية منها، والتي يقدّرها العدو الإسرائيلي بحوالي 50 ألف صاروخ، منها ما يصل مداه الى ما بين 300 و500 كلم، ويغطي كامل فلسطين المحتلة من شمالها الى جنوبها، مروراً بوسطها، ويصيب المرافق الحيوية فيها، من مطارات ومرافئ الى مصافي نفط، ومحطات توليد الكهرباء، الى خزانات المياه، ثم الثكنات العسكرية، ومراكز الطاقة النووية في ديمونا، الى تجمعات للمستوطنين على رقعة فلسطين كلها من الجليل الى النقب مروراً بتل أبيب وحيفا.
فالقدرات العسكرية والأمنية والمعلوماتية لدى المقاومة، هو ما يدفع بالكيان الصهيوني الى الاستمرار بالمناورات، وتعزيز الجبهة الداخلية، وإعادة تأهيل بناه العسكرية البشرية والعتادية واللوجستية، ويستعد دائماً لشن حرب جديدة، يعوّض فيها هزائمه في لبنان، والتي تجلّت مؤخراً في اكتشاف أمن المقاومة، لجهازي تنصت مزروعين في أعالي جبال الباروك وصنين، وقبل ذلك في وادٍ بين بنت جبيل وميس الجبل.
فحرب الاستخبارات، بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، قائمة لم تتوقف، وهي مستمرة، لأنها هي التي تعطّل الحرب العسكرية، وهذا ما حدث في حرب تموز 2006، إذ دخل الجيش الإسرائيلي المعركة دون عيون، فلم يحرز فيها ما كان يريده، وهو تدمير مواقع انطلاق صواريخ المقاومة، والوصول الى مراكز قادتها، حيث فشل في “بنك أهدافه”، ولم يستهدف سوى الجسور والطرقات والمطار والمرافئ والمباني السكنية، وبقي 33 يوماً، يفتش عن منصات الصواريخ ومخازنها، فلم يفلح، وبقيت المستوطنات تتعرّض لسقوط الصواريخ، حتى اللحظة الأخيرة من وقف الأعمال العسكرية بناء للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
فالهزيمة التي تلقتها إسرائيل في لبنان، ناتجة عن تعطيل دور جواسيسها بالرغم من وجودهم وانكشاف أمرهم، بعد وقف الحرب، واعتقال العشرات منهم وتحويلهم الى القضاء، حيث اعترفوا بأعمال الخيانة التي ارتكبوها في تصوير منازل لمسؤولين في “حزب الله” وملاحقة تحركهم في الجنوب وأماكن أخرى.
وفي صراع الأدمغة الذي تخوضه المقاومة ضد إسرائيل، كان الاكتشاف الكبير، لجهازي التنصت والإرسال والمراقبة، في نقطتين تصلان الى علو حوالي 1750 متراً، ويستطيع من خلالهما العدو، أن يتجسس على مسافة تصل الى عشرين كلم، وتمتد الى سوريا، ويغطي مناطق في الجنوب والبقاع وبيروت، ويمكن من خلالهما التعرف الى تحرّك المقاومة والجيش وجمع معلومات بصرية وإلكترونية.
فبعد انكشاف عملاء إسرائيل، في شبكة الاتصالات الهاتفية الخلوية، والثابتة وتوقيفهم بعد اعتراف كل من المتهمين شربل قزي وطارق الربعة أنهما مكّنا إسرائيل من الدخول على الشبكة، وقد أدان المؤتمر لاتحاد الاتصالات الذي انعقد في المكسيك، التدخل الصهيوني على شبكة الاتصالات اللبنانية، فإن إسرائيل أرادت أن تدخل بطريقة أخرى، بزرع أجهزة تنصت في أماكن بعيدة، وقد لا تصلها قدم إنسان، وفي مناطق جبلية تغمرها الثلوج شتاء، ولا يتسلقها مواطنون صيفاً، فتمّ زرع جهازين بين الصخور في الباروك وصنين، وبشكل فني وتقني لا يمكن معرفة أماكنهما، لكن التطوّر التكنولوجي لدى المقاومة، أوصلها الى هذين الجهازين، وتحديد جغرافية وجودهما، فتمّ إبلاغ مخابرات الجيش بذلك، فأرسلت عناصرها الى المنطقتين المحددتين واكتشفت الجهازين، في مكانين يصعب تحديدهما، وتمّ تفكيكهما ونقلهما الى مقر مديرية المخابرات في وزارة الدفاع، وقام خبراء فنيون في الاتصالات، من تحليل هذين الجهازين، حيث تبيّن أنهما حديثين، وقد وضعا منذ فترة قصيرة، وليس كما حاولت صحيفة “يديعوت أحرنوت” الادعاء أنهما مزروعين منذ زمن بعيد، وقد حاول “حزب الله” تسجيل انتصار داخلي، في ظل الوضع الذي يمر به، مع اقتراب صدور القرار الظني عن المدعي العام في المحكمة الدولية دانيال بلمار باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لكن ما ادعته هذه الصحيفة، كذّبه خبراء وضباط إسرائيليون، وأكدّوا أن الجهازين حديثا العهد، واعترفوا بأضرار لحقت بإسرائيل التي أصيب قادتها بصدمة للإخفاق الجديد الذي أصيبوا به من جراء الإنتصار الذي حققه لبنان في حربه الاستخبارية معها، وأكّد مسؤولون إسرائيليون أن أية معركة مقبلة مع “حزب الله”، سيكون مصيرها الفشل الأكيد، لأن معركة الاستخبارات تسبق وتمهّد للحرب العسكرية، ومن دونها، فإن أي مغامرة عسكرية في لبنان ستكون نتيجتها الهزيمة. وأقر مسؤولون إسرائيليون أن الجهازين صنعا في الدولة العبرية، وفي مؤسسة اسمها BEAM SYSTEMIEM ISRAEL، وهو اعتراف بالاعتداء على سيادة لبنان وخرقه للقرار 1701، وهو ما فرض على لبنان أن يتقدم بشكوى أمام مجلس الأمن الدولي، ومعروف مصيرها مسبقاً، وهو استخدام “الفيتو الأميركي” والتذرع الإسرائيلي بأنها أجهزة قديمة تعود إلى زمن الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وما كشفته المقاومة إشارة إلى أن العدوان الإسرائيلي على لبنان، لم يتوقف وأن التصدي له مستمر أيضاً، وان الانتصارات التي تسجل عليه، لا تعد ولا تحصى من سقوط شبكات العملاء، إلى إخراج إسرائيل من شبكة الاتصالات، إلى تفكيك أجهزة التنصت البصرية والالكترونية، مما يؤكد أن ما تبنيه المحكمة الدولية والمدعي العام فيها، من قرار ظني، قائم على رصد اتصالات أوصلت الى معرفة المشتركين في عملية اغتيال الحريري، وهم عناصر من “حزب الله”، يكشف عن أن هذا القرار مشكوك فيه، وهو مفبرك، لأن الاختراق الإسرائيلي لشبكة الاتصالات اللبنانية، والتقنية التي يتمتع ويمتاز بها العدو الإسرائيلي في موضوع “الالكترونيات” مكّنته من أن يدخل على الاتصالات وتركيب مكالمة هاتفية، وبعد أن ثبت أن أجهزة هاتفية، يمكن استخدامها، في الاتصالات بحيث يمكن لمتصل أن يتحدث من رقم لشخص آخر دون معرفته، وهو ما سيحصل في موضوع استناد القرار الظني إلى اتصالات بين عضو في “حزب الله” وآخرين.
فلبنان ربح معركة جديدة على إسرائيل، في حرب الاتصالات والاستخبارات، يبقى على أطراف لبنانية في قوى 14 آذار، أن تعلن موقفاً من هذا الموضوع الخطير الذي له علاقة بالسيادة اللبنانية، والاعتراف بالاختراق الصهيوني للبنان، واحتلال إسرائيل لشبكة اتصالات اللبنانيين، وهو ما يجب أن يدعوهم للتوقف عند هذا الحدث، والنظر إليه من خلفيات متعددة منها الدور الإسرائيلي في التخريب على لبنان، ودفع اللبنانيين إلى الاقتتال فيما بينهم من خلال قرار ظني قائم على الاتصالات، وهي شاهدة زور جديدة متمثلة بإسرائيل.
إلا أن ما حصل في كشف العملاء وأجهزة التنصت لـ إسرائيل، يؤكد مقولة تضافر جهود الجيش والشعب والمقاومة في الدفاع عن لبنان، وفي حرب الاستخبارات، أثبت هذا الثالوث صحة من يتمسك به اللبنانيون كأساس في بناء استراتيجية وطنية دفاعية عن لبنان.
Leave a Reply