التفجير الإرهابي الذي شهدته “أم الدنيا” مصر، واستهدف إحدى كنائسها في اسكندرية التعايش التاريخي بين المسلمين والمسيحيين بعيد منتصف ليلة رأس السنة، مثّل اعتداء على المسلمين مثل المسيحيين، وإن يكن ضحاياه بمعظمهم من المؤمنين المسيحيين الذين كانوا يحيون قداس رأس السنة الميلادية، ونحن نؤمن بأن أمن مصر واستقرارها هما صمام أمان لكل العرب، والتعرض لهما مؤشر شديد الخطورة ليس على دولة مصر وحدها، بل على كل الكيانات العربية التي ما انفكت، منذ أن أقدم الاستعماران الفرنسي والبريطاني على رسم حدودها الملتبسة، تعيش حالة انعدام وزن سياسي وديموغرافي متواصلة. وهي لم تنشأ أصلا على هذه الصورة إلا لتأمين بيئة جيوسياسية ملائمة لنمو النبتة العنصرية التي زرعها الاستعمار في أرض فلسطين ولحمايتها من مخاطر الزوال التي تحملها في ذاتها.
مصر هي الكيان العربي الأوحد الذي تتجسد فيه مقومات الدولة منذ عهد محمد علي باشا بما تعني الدولة من مؤسسات وقضاء وجيش وادارة. ومصر التي يعتبر مسيحيوها الأقباط أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط لم تشهد في تاريخها القديم والحديث مشاكل طائفية، فالمواطنية ومرجعية الدولة الواحدة ومركزيتها ظلت مفاهيم سائدة في المجتمع المصري منذ نشوء الدولة حتى عهد قريب.
ومسيحيو مصر هم مواطنون مندمجون في دولتهم ومجتمعهم المصري الأكبر ولا تساورهم نزعات انفصالية على أساس ديني أو عرقي.
والتعرض لهم هو محاولة لإحداث شرخ في جسم المجتمع المصري تمهيدا لزعزعة أسس الدولة ومؤسساتها ووحدة الشعب وهذه مسألة تتعدى في خطورتها الساحة المصرية الى الساحات العربية برمتها سواء في شمالي افريقيا أو الخليج العربي أو بلاد الشام.
صحيح أن مصر شهدت بعض التوترات الطائفية في العقد الأخير بين مسيحيين ومسلمين لكن مظلة الدولة المصرية بقيت حارسا للوحدة الوطنية ويجب أن تستمر في هذا الدور الذي، وإن اعتراه بعض الضعف مع صعود الخطاب الإسلامي المتشدد في العقدين الأخيرين، وقابله تشنج مسيحي عبرت عنه مجموعات مسيحية قبطية من بلدان الاغتراب، إلا أن رأس الكنيسة المتمثل في الأنبا شنودا الثالث والأزهر الشريف أظهرا على الدوام حرصا على الوحدة الوطنية ولجما محاولات الإساءة اليها.
ولقد كانت مواقف الكنيسة القبطية تحت قيادة الأنبا شنودا ولاتزال تمارس سياسة حكيمة وتعبر عن أرقى درجات الانسجام مع المصلحة الوطنية المصرية.
لكن على الدولة المصرية بكل أجهزتها ومؤسساتها السياسية والأمنية أن تتنبه الى ما يجري إعداده لضرب استقرار مصر ووحدة شعبها، ليس فقط بالخطاب الوجداني بل من خلال تدابير وخطوات عملية لمعالجة الغبن اللاحق بالمسيحيين على صعيد المشاركة السياسية وفي المواقع الحكومية والإدارية. ويجب على الدولة المصرية أيضا إعادة النظر ببعض القوانين المجحفة بحق المسيحيين من نوع القيود المفروضة على بناء الكنائس، ولو أثارت هذه المراجعة حفيظة بعض التيارات الاسلامية المتشددة. لأن الغالبية الساحقة من مسلمي مصر وأزهرها الشريف هم رمز للاعتدال والتسامح ويجب أن يظلوا كذلك لأن لمصر دورا يتعدى حدودها، وهو دور أتاح لها أن تكون واحدا من مراكز القرار الاقليمية والعالمية في الحقبة الناصرية وخلال تجربة منظمة عدم الانحياز التي ضمت قوى دولية بارزة وقفت في وسط الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي وكانت مصر الدولة أحد أهم مرتكزات تلك السياسة.
إن ما جرى أمام كنيسة القديسين في الاسكندرية يتعدى في خطورته أي توتر طائفي شهدته مصر في السنوات الأخيرة وهو عمل إرهابي جبان ومدان بكل المقاييس الوطنية والأخلاقية والدينية. وهو وصمة عار على جبين من خططوا له ونفذوه وهم بالاعتبار الديني الى جهنم والضحايا الأبرياء الى الجنة.
حمى الله مصر ودولتها وشعبها، وهي ستبقى أمنع من الفتن التي تدبر لها، ولنا ملء الثقة بقدرة الشعب المصري بمسلميه ومسيحييه على تخطي هذه المحنة وتكريس وحدته بجهود رأسي الكنيسة القبطية والأزهر الشريف بما يمتلكون من الحكمة والدراية والمسؤولية الوطنية والدينية التي يضطلعون بها والكفيلة برد كيد المتآمرين والحاقدين الى نحورهم أيا كانت المسميات التي يتوارون وراءها.
“صدى الوطن”
Leave a Reply