ثمة نزعة قوية لدينا بإحالة كل أسباب الاخفاقات السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية في دنيا العرب على “الآخر” و”الأجنبي” الذي لا ينام الا على حياكة المؤامرات ضد استقرارنا.
لا تحيد ردود الفعل التي انطلقت بعد مذبحة كنيسة القديسين في الاسكندرية عن هذه النزعة. لم يرتفع صوت واحد من مراكز الحكم سواء في مصر أو غيرها يوحي بأن ثمة مسؤولية “داخلية” في مكان ما، عما تشهده بعض الساحات العربية المتوترة التي تشهد من وقت الى آخر مواجهات ذات طابع دموي طائفي أو مذهبي.
فالأميركي والاسرائيلي، وحتى الايراني، حاضرون دائما في أذهان الماكينة الاعلامية الموظفة لدى حكام المنطقة العربية لوضع السياسات الفاشلة على شماعة تدخلهم في الشؤون الداخلية لبلدان العرب.
وقد هبط تنظيم “القاعدة” في العقد الأخير “من السماء” على أولئك الحكام كأكثر الأطراف استعدادا لامتصاص كل ذلك الفشل والقصور السياسي والأمني. فليس أسهل من إلقاء التهم على هذا التنظيم الذي فقد مركزيته بعدما قصمت حرب أفغانستان ظهره وشتتت قادته وكوادره، فصار “قواعد” متعددة ترتبط بأيديولوجية موحدة. فهنالك “قاعدة المغرب العربي”، و”قاعدة جزيرة العرب” و”قاعدة بلاد الشام”.. إلخ.
قبل تفجير الإسكندرية الإرهابي، صدر تهديد عن احدى “القواعد” (دولة العراق الإسلامية) يهدد المسيحيين في العراق ومصر، ويذكر الإسكندرية وكنيستها تحديدا. فكيف ينجح هذا التنظيم الآخذ في التحول الى شكل “هيولي” في السنوات الأخيرة في اختراق كل الاجراءات الأمنية في مكان تعلم قيادات أجهزة الأمن، فضلا عن القيادات السياسية أنه مهدد بالتفجير على خلفية ما يزعم أنه احتجاز لامرأتين مسيحيتين في أحد الأديرة لأنهما اشهرتا إسلامهما!
نحن لا نريد تنزيه تنظيم “القاعدة” عن القيام بهذه الأعمال الإرهابية البشعة بحق الأبرياء من مسيحيين وقبلهم من مسلمين، وتشهد على هذه البشاعة هجماتهم الانتحارية على التجمعات السكانية في بغداد والموصل والرمادي والنجف وغيرها من المدن العراقية.
فهذا التنظيم الذي بدأ “جهاديا” ضد الوجود الشيوعي السوفياتي السابق في أفغانستان لم يلبث بعد سقوط الامبراطورية السوفياتية أن تحول الى تنظيم “ارهابي” في أعين الغرب الذي لطالما وصفه بالتنظيم الجهادي!
لكن الأدهى هو ان ينبري مسؤولون ومحللون على الشاشات الى رسم مشهد المؤامرة على “الوطن” من باب التآمر على أقلياته، كأن استهداف تلك الأقليات (المسيحية تحديدا) في العراق وفي مصر، ليس حافزا لتميكنها وتحصينها عوض البكاء على أطلال كنائسها وجثث أطفالها ونسائها ورجالها، كما في كنيسة “سيدة النجاة” في بغداد وكنيسة القديسين في الاسكندرية. ألا يفيد هذا المنطق بأننا “نجرب” بشاعة المؤامرات ضد أوطاننا بأجساد أقلياتنا التي لم نفعل شيئا لحمايتها؟ بل إن حكامنا –أمد الله في أعمارهم- ينتظرون مذبحة هنا ومذبحة من هناك ليقولوا لنا: هل صدقتم؟ هاهي “القاعدة” تنفذ تهديداتها.
ليس مهما في نظر هؤلاء أن تسيل دماء الأقليات (المسيحية حاليا) بقدر ما هو مهم إثبات أن المؤامرة الخارجية، “قاعدية” أو غيرها، هي المسؤولة عن زعزعة الاستقرار والنظام العام.
من فكر في مسألة “انتخاب” برلمان بلا معارضة في مصر مثلا؟
من طرح مسألة حقوق المواطنية للأقباط كفئة متساوية في نظر القانون المصري مع سائر أبناء هذا الشعب، ومن فكر في وقف النزيف المسيحي في العراق؟ ومن دون أن يعني كلامنا اتهاما للنظام وأجهزته، ليس بالتآمر، بل بالتهاون في قضية أمن المواطن المصري أو العراقي أو اللبناني في هذه الحالة أيضا، المنتمي الى الأقلية المسيحية في المشرق قبل أن تستعيد اسمها القديم “المسألة المشرقية” (من يدري؟) على ضوء الدعوة البابوية الى حماية مسيحيي الشرق! ألا يحق للمرء أن يتساءل وأن يشكك في صدق نوايا الأنظمة الحاكمة التي يبدو خطابها الاعلامي مرتكزا على عمودي البكاء على الأقليات، والتهويل من خطر “الأصولية” لاستعادة ذلك التوازن المفقود في السلطة والحكم على حساب وجود الدولة ومؤسساتها التي يجب أن تكون وحدها الضامنة لحقوق المواطنين ليس بصفتهم مسيحيين ولا مسلمين.
هل انتبهنا الى “مجالس العزاء السياسي” التي نصبها الحاكم ووزارؤه ومستشاروه دون أن تكتمل باعلان حداد وطني ولو ليوم واحد على الضحايا الأبرياء أمام كنيسة القديسين في الاسكندرية وقبلها كنيسة سيدة النجاة في بغداد!
أم أن الوحدة الوطنية تتحقق بتظاهرة من بضعة آلاف من المواطنين الذين يرفعون الصليب والهلال في أحد شوارع القاهرة؟
إن أدهى ما ينتظرنا وما يخشى أن حكامنا يرونه نهجا ضامنا لاستقرارهم على كراسي السلطة أو توريثها لأبنائهم هو تحويل شوارع مدنهم وعواصمهم الى ميادين لصراع “ديكة بشرية” بين أقليات وأكثريات وأن يسيل الكثير من الدماء قبل أن يدركوا أن أرض الأكثريات والأقليات تهتز تحت أرجلهم ولم تعد تحتملهم.
قد لا نكون أمام “مسألة أقليات” بعد، لكن مؤشر التوتر الطائفي في أكثر من بقعة عربية من العراق الى مصر والسودان، ووصولا الى لبنان ينذر يتبلور هذه المسألة في وقت غير بعيد. عندها قد لا يعود مجديا التصدي الاعلامي لدعوات حماية المسيحيين أو أية أقليات أخرى، واعتبارها تدخلا في “سيادات” الدول.
بالمناسبة، هل ثمة من لايزال يعتقد بأن لدينا دولا سيدة؟
Leave a Reply