بيروت –
انتصرت لعبة الدول الكبرى على مساعي التسوية العربية في لبنان، فانسحبت قلقا شعبيا وحيرةً سياسية أمام مستقبل مجهول لا أحد رسم ملامحه بعد أن صارت الأزمة اللبنانية محل تجاذب اقليمي ودولي حاد.
الثابت الوحيد في المشهد اللبناني انفلات القرار الظني من عجلة المراوحة، إذ صار من المتوقع اقتراب موعد صدوره بهدف تعقيد الأمور، وإن كانت بعض التقديرات تشير الى أن جهات فاعلة داخل الادارة الاميركية تفضلّ التريث واختيار التوقيت المناسب لإصدار القرار ذلك أن “اسرائيل غير جاهزة للتدخل في حال قرر “حزب الله” السيطرة على لبنان”.
أضف الى أن “القوى الظلامية”، بحسب تعبير رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ترغب بالتأكيد في المُضي في ملف المحكمة حتى النهاية، وهي لم تُمارس كل هذه الضغوط لوقف التسوية كي تقرر لاحقا تأجيل صدور القرار الظني.
وفي تفاصيل الساعة الأخيرة من عمر المبادرة السورية–السعودية، اوردت مصادر متقاطعة أن نجل ملك السعودي عبد العزيز اتصل بالرئيس السوري بشار الأسد معتذرا عن عدم امكانية تطبيق ما التزمت به السعودية لجهة التسوية، أثناء تواجد رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الولايات المتحدة. بعدها خرج رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون ليعلن للبنانيين الخبر، في خطوة رمزية أرادتها المعارضة استباقا لأي حقن مذهبي.
من بعدها تسارعت وتيرة التطورات، وحسمت المعارضة قرارها بإعلانها استقالة وزرائها العشرة من الحكومة، قبل أن ينضم اليهم وزير الدولة عدنان السيد حسين، المحسوب من حصة رئيس الجمهورية، لتُصبح الحكومة في حُكم المستقيلة.
وسرعان ما بدأ سيل التصريحات من قطر وتركيا والولايات المتحدة والسعودية وإيران. ولئن اختلفت المواقف الدولية والعربية في تحديد الجهة المسؤولة عن افشال التسوية فإن الجميع توافقوا على خطورة الوضع، علما انه بات واضحا استحالة عقد لقاء على غرار اتفاق الدوحة، بسبب اختلاف الظروف السياسية ووصول الامور حدا يتوجب فيه إعادة النظر بأصل النظام اللبناني وإتفاق الطائف.
وعلى الرغم من ضبابية الواقع السياسي، بدا لافتا ارتياح قوى المعارضة لمسار التطورات في مقابل تجهّم لدى فريق الرابع عشر من آذار الذي ينتظر عودة الحريري من الخارج قبل أن يقرر موقفه من المستجدات.
في حين ظهرت مؤشرات الى اتجاه لدى المعارضة بعدم الانجرار الى الشارع وترك الامور في عهدة الجيش اللبناني في حال فلتان الامور أمنيا وإبقاء سقف التحرك ضمن سياق الخطوات السلمية والدستورية، مع تأكيدها على عدم امكانية عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، حتى وإن تطلبّ الامر عدم تأليف حكومة في القريب العاجل. وقد تم ابلاغ رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان رسميا بمضمون هذا الموقف.
بناءً عليه، انطلقت دوائر المعارضة في الخوض في شكل الحكومة المقبلة، مع وضع كافة السيناريوهات خاصة في عدم رغبة الفريق الاخر في المشاركة في الحُكم تضامنا مع الحريري، على أن تكون اُولى استحقاقات الحكومة المقبلة تنفيذ بنود التفاهم السوري-السعودي.
وبالفعل، بعد اعلان رئيس الجمهورية تكليف الحريري بتصريف الأعمال، بعد ان صارت حكومته بحُكم المستقيلة، أعلن رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعد خلوة مع سليمان أن الإستشارات النيابية تنطلق ظهر الإثنين المقبل.
في هذه الأثناء، اتجهت الأنظار الى جنبلاط باعتباره “بيضة القبّان” في ترجيح كفة أي من الفريقين في المجلس النيابي لناحية تسمية رئيس الوزراء المقبل أو في أي تطور مقبل قد تلجأ اليه المعارضة مجددا في المؤسسات الدستورية. ولم تطل فترة التحليلات حول مواقف جنبلاط، إذ سرعان ما حسم الأخير خياراته بحسب ما أوحت زيارته الى أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله بشكل مفاجئ ومن قبلها حديثه الصحفي حول ابلاغه القيادة السورية التزامه “بكل ما ستطلبه منه”.
على صعيد موازٍ، وفي خطوة بدت منسقًة بالكامل مع مختلف الأفرقاء الذين لا يرغبون في العودة مجددا الى الشارع، إستبعد قائد الجيش العماد جان قهوجي إندلاع فتنة في لبنان جرّاء التطورات الاخيرة، مؤكداً أن القادة السياسيين على مختلف انتماءاتهم وأطيافهم لن يقدموا خدمة مجانية لأعداء لبنان.
وشدد قهوجي على أن “الجيش اللبناني على استعداد تام لإخماد شرارة الفتنة، وعدم السماح لاي كان بتحويل التجاذبات إلى اضطرابات أمنية تهدد المواطنين في أرواحهم وممتلكاتهم”.
على أن الأيام القليلة القادمة ستحمل مسارا دستوريا على صعيد مساعي تشكيل حكومة جديدة، مع ملاحظة إمكانية حصول اختراقات قد لا يكون بأيدي أي من الأفرقاء المحليين التحكم بها.
شائعات اسرائيلية حول تحرك الاسطول الاميركي
في هذه الأثناء، برز خبر نشره موقع “تيك دبكا” الاسرائيلي حول نية الاسطولين الاميركي والفرنسي شرقي المتوسط التحرك ضد حزب الله في حال وقوع مواجهات على الحدود اللبنانية الجنوبية، عقب تدهور الأوضاع السياسية في بيروت.
وكونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها الموقع المذكور الى الدعاية والحرب النفسية، غير أنه – والحق يُقال – يُحسن خوضها أفضل بدرجات من مواقع مثيلة له..حتى في العالم العربي.
بعد انشائه الموقع عام 2000 بالتعاون مع زوجته الصحفية ديان شاليم، ظهر مؤسس “تيك دبكا” الصحافي غيورا شاميس في مقابلة تلفزيونية على احدى القنوات التلفزيونية الاسرائيلية ليتحدث عن مصداقية وسيلته الإعلامية بعد أن لفت الأنظار بقدرته على على ضخ كم كبير من التقارير ذات الطابع الاستخباري والعسكري. المتابع لتلك المقابلة يدرك مدى اتساع الهوة بين قدرة الرجل، البالغ من العمر 58 عاما، على ابتداع السيناريوهات وكسب المال من التقارير والنشرات التي يبيعها عبر موقعه، واستحالة قيامه بعمله هذا من دون ارتباطات أمنية مع أجهزة محترفة.
تتضح الصورة أكثر حول أهداف “دبكا” بالإشارة الى تركيزها في السنوات الخمس الأولى لإنشائه (عقب الانسحاب الاسرائيلي من لبنان العام 2000) على أخبار تنظيم القاعدة والإرهاب الدولي بما يمّس مشاعر الإدارة الأميركية تحديدا.
غير أن هذه الوظيفة تعرضّت لطعنة في مصداقيتها في آب 2007 حين نشر الموقع تقريرا كاذبا عن مخاطر بوجود قنبلة قذرة في مدينة نيويورك، ما أطلق حينها سلسلة تحقيقات حول خلفيات “دبكا” وهوية الجهات التي تديره.
ولئن كان اسلوب الموقع بات معروفا لناحية اتقانه تمرير معلومات مضللة من ضمن سلة أخبار لها مصداقية الى حد ما، وهو اسلوب استخباراتي بامتياز، فإن شهادات خبراء مرموقين فيه قد تكون كافية لحسم لنقاش. في هذا الصدد، يقول مراسل الشؤون الأمنية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رونن برغمان أن “دبكا يعتمد على مصادر لها أجندتها الخاصة، كالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة”، ويضيف إن “المسؤولين الرسميين في الاستخبارات الاسرائيلية لا يعتبرون حتى أن 10 في المئة من مضمون الموقع ذو مصداقية”. أما البروفسور في كلية الحقوق في جامعة “كورنيل” مايكل دورف فيختصر رأيه بالقول إن “دبكا” يشكل “أفضل موقع اسرائيلي في تجارة الإشاعات”.
وبالعودة الى مضمون التقرير حول تحركات الاسطولين الاميركي والفرنسي باتجاه الشواطئ اللبنانية، تجدر الإشارة الى الملاحظات التالية على هامش ايراد الموقع خبر أن المجموعة الهجومية “انتبرايز” تستعد للتقدم نحو الشواطئ اللبنانية تحسبا من اندلاع مواجهة إيرانية – اسرائيلية على أرض لبنان:
– بتاريخ السابع من شهر كانون الثاني الجاري، أعلن قائد الأسطول الثاني الأميركي أن القوة البحرية الضاربة “انتبرايز” ستتجه الى ساحة عمليات الاسطولين الخامس والسادس ( أي مياه الخليج والبحر المتوسط) في مهمة تبديل روتينية (تلجأ اليها البحرية الأميركية كل ستة أشهر).
– القطع البحرية التي تتألف منها المجموعة “انتبرايز” معدّة بالكامل للتعامل مع مهمات تقليدية في أعالي البحار. وقد دأبت البحرية الأميركية على ارسال هكذا نوع من المجموعات القتالية الى المنطقة منذ غزو العراق في العام 2003، حتى أن هذا الإنتشار هو الثالث من نوعه لـ”انتبرايز” نفسها في الخليج والمتوسط.
– تحمل المجموعة الضاربة “انتبرايز” 6 الاف جندي بحّار على متنها، وهو بالتأكيد عدد غير كافٍ لخوض حرب ضد إيران! فضلا أن قطعها الإثنتا عشر (معظمها من النوع الكبير والبطيء الحركة نسبيا) لا تصلح ابدا لمواجهة المخاطر التي تحويها مخازن السلاح او التكتيكات المتبعة لدى “حزب الله” وإيران على حد سواء، بحسب ما تزعم الدراسات العسكرية الأميركية.
وبالفعل، سُرعان ما أكد المتحدث باسم البنتاغون الكولونيل دايفد لابان أنه ليس لدى أميركا خططا للتحرك بشكل حسّي على الأرض في حال تدهورت الأوضاع الأمنية في لبنان، مع تشديده على مراقبة واشنطن للأوضاع عن كثب.
بأي حال، وبعيدا عن التحليل والتقدير، يمكن اختصار مشهد الرعب، الذي تعيشه تل أبيب بهدف فهم أفضل لمغزى تقرير “دبكا”، من خلال تصريح قائد لواء في الجبهة الداخلية الاسرائيلية العقيد آدم زوسمن حين أعلن فجأة أنه “في الحرب القادمة الكبيرة، عشرات الصواريخ من مختلف الأنواع ستطلق باتجاه تل أبيب”.
Leave a Reply