بحساب الربح والخسارة لا تفيد الخطوة التي أقدم عليها “حزب الله” مع حلفائه، وبمباركة سورية-ايرانية، أنه سيربح معركة إلغاء المحكمة الدولية التي خرجت من أيدي أي فريق سياسي أو قضائي لبناني، مثلما لا تفيد بأن الحزب سيكون قادرا على تعديل الموازين السياسية-الطائفية التي يشكل اتفاق الطائف سقفها الأعلى. لا “دوحة” جديدة، سارع رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم الى الاعلان، فيما كانت وزيرة الخارجية الأميركية تطلق من الإمارة أكثر المواقف تشددا تجاه “حزب الله” والأطراف الاقليمية الراعية له، متهمة إياه بمحاولة زعزعة الاستقرار الداخلي.
رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري الذي أسقط حزب الله حكومته المسماة تجاوزا “حكومة الوحدة الوطنية” في ضربة قوية لطموحاته بالحكم في بيئة سياسية مستقرة، يعد الخاسر الأبرز على الصعيد السياسي، بعد فشل محاولاته الدؤوبة للجمع بين مفهومي العدالة والاستقرار (بأجنحته السياسية والأمنية والاقتصادية).
أما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، فيبدو، على غرار أبيه الراحل كمال جنبلاط، ممسكا بعصا التوازنات الداخلية في وسطها وقطب الرحى الذي تدور حوله المناورات الداخلية والاقليمية وحتى الدولية في محاولة تغيير المعادلة السياسية الداخلية الراهنة، والتي نجح جنبلاط حتى الآن في جهوده للتفلت من احراجاتها.
لكن الأدهى في سابقة إسقاط “حكومة الوحدة الوطنية” باستقالة أكثر من ثلث أعضائها في ظل أجواء الانقسام الطائفي والمذهبي، هو ما تؤشر إليه هذه الخطوة الدراماتيكية من فقدان الأطراف الداخلية بكل تنوعاتها السياسية والطائفية والمذهبية القدرة على اجتراح التسويات التي امتازت بها الطبقة السياسية اللبنانية، منذ عهدها بلبنان الكيان الذي جاء ثمرة تسوية “تاريخية” بين المسيحيين والمسلمين حملت على مسمى “صيغة العيش المشترك” التي لم يبق منها، بعد نحو سبعة عقود، سوى الاسم.
ولعل عملية رصد سريعة لمواقف أطراف الأزمة الأقليميين والدوليين المؤثرين في الوضع اللبناني، بعد انهيار الحكومة اللبنانية على خلفية الانقسام حول المحكمة الدولية، تفصح عن عملية تجاذب معقدة استمرت منذ العام 2005، ولم تنفع معها كل معادلات التهدئة في تجنيب البلد الصغير تداعيات الأزمات العالقة بين تلك القوى، من العراق الى الملف النووي الإيراني وفلسطين والسودان وصولا الى مركز تجلياتها الأبرز المتمثل بالساحة اللبنانية.
وإذ يصعب التكهن بأن “حزب الله”، ممثلا لأغلبية شيعية، لم “يحسب” خطوته الأخيرة بقطع شعرة معاوية مع الأغلبية السنية الأخرى وزعيمها الأبرز سعد الحريري، يبرز التساؤل حول التداعيات المحتملة لهذه الخطوة على الصعيدين الداخلي والاقليمي. لا يمكن التعويل هنا على “التطمينات” التي جادت بها بعض الرموز المحسوبة على الحزب وعلى سوريا من أن الوضع الأمني سيبقى مستقرا وبأن المؤسسة العسكرية الممثلة بالجيش اللبناني لن تسمح بهز الاستقرار.
فخطوة إسقاط الحكومة دستوريا في ظل المعادلة النيابية القائمة ستكون بلا جدوى، اذا لم تتحول الأقلية البرلمانية الحالية الى أكثرية في غضون الساعات والأيام المقبلة، والرهان هنا يقع على انحياز ناجز وتام لكتلة “اللاعب الملك” وليد جنبلاط الى صفوف قوى “8 آذار”، وهذه مسألة ليست محسومة حتى جنبلاطيا، رغم قوله بأنه ينسق كل خطواته مع سوريا.
فالزعيم الدرزي قد لا يكون قادرا على فرض خياراته الجديدة على كامل أعضاء كتلته النيابية، أو حتى راغبا بذلك، رغم حدة انقلابه الأخير على حلفائه من قوى “14 آذار” وتموضعه، حتى الآن في وسط الصراع بين الأغلبيتين السنية والشيعية، مع استمرار تحذيره من أن أي صراع بين هاتين الأغلبيتين سيجرف معه كل المواقع الأقلوية من مسيحية ودرزية وسواها، ويجعلها في أفضل الأحوال، جزءا من الوقود المستخدم لإدارة ذلك الصراع الذي لن تقتصر تداعياته على البقعة اللبنانية، بل ستتعداها الى المحيط الذي يغلي مرجله المذهبي والطائفي و”الاجتماعي” من مشرق العرب الى مغربهم.
وإذا تم الركون الى رؤية رئيس كتلة “حزب الله” البرلمانية محمد رعد لشخصية رئيس الحكومة الجديد بوصفه الشخصية “ذات السيرة الوطنية والمقاومة للاستكبار” فإننا أمام احتمال تغيير “جراحي” لا بد للحزب من اللجوء اليه لاعادة ترتيب الأوضاع الداخلية بما يؤسس لـ”حكومة مقاومة” تكون واجهة التصدي للمشاريع الأميركية الغربية في المنطقة العربية والتي يقودها محور الممانعة السوري-الايراني، الى حين الوصول الى تسويات حول الملفات العالقة بين هذا المحور والتحالف الاميركي-الغربي الذي تدعمه دول عربية ذات وزن اقليمي مؤثر مثل السعودية ومصر.
والمرحلة المقبلة من الصراع لن تحتمل أية هوامش رمادية تقف فيها قوى تمارس الممانعة والمطاوعة بصورة تناوبية كما الحال مع إمارة قطر بمقدار كبير، ومع تركيا بقدر أقل.
ولا تكتمل هذه الصورة المحتملة لمنطقة حبلى بتطورات مثيرة، دون الأخذ بالاعتبار التربص الاسرائيلي الذي يجري الاستعدادات المتواصلة لاستكمال حربه على رأس حربة الممانعة المتمثلة بـ”حزب الله” بصورة أساسية وبحركة “حماس” بصورة ثانوية، في ظل ظروف أكثر ملاءمة لعدوانيته الجاهزة باستمرار لإفراغ شحناتها الدموية القاتلة على الشعبين اللبناني والفلسطيني.
فهل تكون خطوة إسقاط الحكومة اللبنانية مقدمة لتطورات أكثر دراماتيكية باتت الساحتان اللبنانية بترتيباتها الجديدة، والفلسطينية (في قطاع غزة) مهيأتين لاحتضانها في جولة جديدة من صراع القوى الاقليمية والدولية؟ وهل أدرك “حزب الله” وحليفاه الاقليميان (سوريا وايران) أن المعركة الكبرى قد اقتربت وأن الحاجة الى تغيير داخلي جذري يسبقها باتت حتمية ولا مناص من إحداث هذا التغيير لمواكبة الحرب القادمة التي يجري التمهيد لشنها عليه وعلى حليفيه تحت راية المحكمة الدولية وقرارها الظني؟
أم أن خطوة إسقاط الحكومة لا تتعدى الرد التحذيري على رئيسها سعد الحريري الذي رفض التخلي عن المحكمة بارادة منه، أو بفعل ضغط أميركي عربي، لعل الزعيم السني الشاب يعيد حساباته اذا كان طامحا قويا الى الحكم ولو كان الثمن التفريط بمحكمة لطالما تمسك بها لتحقيق العدالة في قضية اغتيال والده.
الجواب عن السؤالين الآنفين سوف تحدده التطورات التي ينتظرها لبنان في الأيام القادمة من حيث اسكتمال “الانقلاب الدستوري” باجراءات دستورية تؤدي الى تسمية رئيس جديد لحكومة سيكون تأليفها مفتوحا على كل الأزمات والصراعات الداخلية والاقليمية والدولية، أو من حيث القيام باجراءات “ميدانية” لتعزيز الانقلاب ووضع لبنان كليا في خانة محور الممانعة مع ما لهذا الاحتمال من تداعيات محتملة على استقراره الامني والسياسي والاقتصادي وعلاقاته العربية والدولية.
لكن الأكيد أن لبنان، في كلتا الحالتين مقبل على الدخول في المجهول الذي لا يعلم أسراره سوى الله والراسخين في علم الصراعات الأممية التي كان قدر لبنان ولايزال أن يكون في عيون عواصفها على الدوام.
Leave a Reply