من شاهد رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري واستمع الى حديثه على قناة “الجديد” في “حقيقة ليكس” الذي عرض شهادة الحريري أمام لجنة التحقيق الدولية واجتماعه بشاهد الزور محمد زهير الصديق، من شاهد الحريري في هذا الموقف وسمع حديثه، علم عمق مأزقه وفداحة موقفه، فالرجل وللوهلة الأولى يثير كلامه الشفقة ويدفع باتجاه التعاطف معه إلى حد التربيت على كتفه كما يُفعل مع الطفل الصغير عندما يبدأ بسرد مظلوميته واضطهاد أمه له أمام أبيه عندما يعود الى المنزل بعد غياب طويل.
فهو لا يعرف مَن العدو ومَن الصديق، مَن إلى جانبه ومَن يقف ضده. فنهاد المشنوق أحد أكثر المقربين من والده هو أحد الوشاة بنظر الحريري الابن، والصحفي سمير منصور المعروف بحريريته الى حد التملق هو أحد كتبة التقارير لرستم غزالي. ومستشار والده لفترة طويلة ومستشاره حتى وقت قريب مصطفى ناصر هو يعمل لصالح “حزب الله”، والرئيس بشار الأسد غبي ومعقد من والده حافظ الى حد إخفاء صوره من سوريا! وهذا سفاح وذاك مثله، وهذا مبتز وذاك عاهر، أما والده، عندما سأله المحقق من أين كان يأتي بالمال متوقعا أن يقول له الحريري بأن والدي كان رجل أعمال وثري، فأجابه ببساطة: من الخزنة.
– من يحضر المال؟
– درويش يسلمه إلى أبي الذي يعطيه لأبي طارق ومنه الى رستم غزالي وطلال سلمان وشارل أيوب وغيرهم ممن أنعم الله عليهم بالمال النظيف.
فتصبح معادلة الثالوث “درويش-الحريري-أبو طارق” هي الموازية لمعادلة الجيش-الشعب-المقاومة، التي حكمت الشعب اللبناني أكثر من عشر سنوات، هي مدة وجود الحريري في رئاسة الحكومة. والمضحك المبكي في آن، هو إعلان الحريري الابن أن والده كان أكبر مفسد للحياة السياسية في لبنان، وأكثر من استعمل المال السياسي لشراء الذمم والأقلام من أجل الترويج لنفسه ولمشروعه السياسي. هكذا حكم رفيق الحريري الفقراء في لبنان، هكذا قمع رفيق الحريري مظاهرة 1٣ أيلول 1993 تحت جسر المطار التي سقط فيها أكثر من 20 ضحية بين نساء ورجال وأطفال، ولا محكمة ولا من يحاكَمون. هكذا قمع رفيق الحريري الاتحاد العمالي العام وقسمه الى اتحادين، هكذا ضرب رفيق الحريري الطبقة الوسطى في لبنان لصالح الأغنياء، ثم منّ على ضحايا سياساته الاقتصادية ببعض من الفتات على شكل منح مدرسية وجامعية واعاشات شهرية حتى يبقى المواطن تحت رحمة الجوع والتشرد والتبعية.
هكذا، بالرشوة حكم رفيق الحريري لبنان، حسبما يقول الشيخ سعد، ثلاثون ألف دولار هي التعريفة المدفوعة لرستم غزالي في بيروت، أما في عنجر فلم يكن رستم يرضى بأقل من تسعين ألف دولار مع بدلات النقل طبعاً، وأعمال الصيانة والتشجير وزرع الورود في الحدائق، كي يتم نزع الأشواك السياسية من الدرب الحريرية!
ذلك كله يجعلك تتعاطف مع سعد الحريري وتتألم لحاله، لأن الرجل وقع في أسر جوقة من المستشارين الأمنيين والسياسيين بشكل مفاجئ. وبدون أدنى مقدمات، وجد الشيخ سعد نفسه سلطانا تتماوج الخلائق من تحته وتهتف باسمه، من غير أن يلم بألف باء السياسة في لبنان.
هكذا يمارس وسام الحسن سحره على سعد الحريري فيقنعه بالاجتماع بمحمد زهير الصديق وتحمّل عناء السفر للقاء من يعلم بأنه شاهد زور.
وببساطته يحاول سعد الحريري إقناع الصدّيق بأن يدلي بإفادة أكثر دقة لإدانة سوريا، فيقول للصديق: “الكل يعلم بأن سوريا عملتها والدول العربية متأكة من ذلك ولكن هذه الدول تريد أن نقدم لها الأدلة”، ويكاد الحريري لولا مقاطعة الصدّيق له بنبرته العالية، أن يقول عليك أن تقدم قصة محبكة ولو كاذبة كي تقنع الدول العربية.
في تموز 2007 كان لا يزال الحريري يتهم سوريا، دون شك، حسب إفادته للجنة التحقيق، فما الذي حصل حتى يبرئ سوريا ويتهم “حزب الله” بالاغتيال؟
بسحر وسام الحسن تغيرت وجهة الاتهام وانقلبت كل المعايير، بسحر وسام الحسن تبدلت الأولويات من الهجوم على سوريا الى الهجوم على “حزب الله” وأصبح رستم الموازي التفاوضي لوسام حيث جمعهما الحب والوئام من جديد.
يروي وسام الحسن بأن النقيب وسام عيد هو من توصل الى حل لغز الاتصالات عام 2006 التي أوصلته الى شبكة الهواتف الثمانية التي استعملها الجناة لتنفيذ عملية “14 شباط” وفيها توصل الى كشف هوية عبدالمجيد غملوش “الغبي” الذي اتصل بخطيبته بعد تنفيذ الجريمة من أحد الهواتف الثمانية، ظنا منه بأن العملية نجحت وزال الخطر. ويبذل حضرة العقيد جهدا مضاعفا كي يقنعك بصوابية منطقه بلباقة ولياقة و”أخلاق عالية” يتوجه الى محدثه قائلا: “قلنا للسيد حسن نحن مستعدون للتعاون من أجل لملمة الموضوع بأقل ثمن ممكن ومحاكمة الفاعلين بصفتهم الفردية، فكان أن فجر السيد الموضوع في الإعلام” (في إشارة لكلام السيد حسن نصر الله عن مفاتحة الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري له بموضوع القرار الاتهامي الذي يشير الى ضلوع “حزب الله” بالجريمة).
وعندما يُسأل وسام الحسن عن ما الذي يجعله متيّقنا من أن نصرالله هو من أصدر أمر الاغتيال ينبري الرجل قاسماً يميناً معظماً بأنه على يقين بأن السيد حسن لم يكن يعلم وليس له علاقة بعملية الاغتيال!
إذن كيف اغتال “حزب الله” الحريري؟
يروي وسام الحسن فصله الأخير من قصته الهندية فيقول: “في أوائل عام 2006 استطاع النقيب في القسم التقني في فرع المعلومات، وسام عيد، من تحديد شبكة الهواتف التي نفذت عملية الاغتيال والتي أوصلته الى المدعو عبدالمجيد غملوش. اتصلت، (والكلام للحسن) بوفيق صفا (المسؤول الأمني في “حزب الله”) وعرضت أمامه ما توصل اليه النقيب عيد، فاتفقنا على إجراء عرض وفحص للنتائج”.
وبالفعل فقد رتبت لقاءً بين النقيب عيد وكوادر من “حزب الله” قدم خلالها عيد عرضاً (Presentation) للآلية التي اعتمدها في تحديد الشبكة وكيف تم التوصل الى اسم غملوش. “ظهر الذهول على وجوه كوادر الحزب” كما يقول وسام الحسن، “ثم اتفقنا على متابعة الموضوع على أن يجري وفيق صفا بحثاً وتحرياً عن عبدالمجيد غملوش الذي أنكر معرفته به”، ولاحقاً، يقول الحسن بأنه التقى نصرالله وسأله عن غملوش. لكن لم يتعرف نصرالله عليه، فاستدعى وفيق صفا وسأله عنه، فنفى صفا أن يكون هناك شخصا اسمه عبدالمجيد غملوش في صفوف “حزب الله”.
يضيف الحسن بأن فرع المعلومات أجرى تحرياته الخاصة وتوصل الى “أدلة قاطعة” بأن غملوش ينتمي الى “حزب الله”، وعندما التقى بالسيد حسن نصرالله مرة ثانية فاتحه بالأمر، فتعجب السيد واستدعى وفيق صفا في الحال وسأله عن الأمر. ارتبك صفا، يقول الحسن، وتذبذب كلامه “بين معنا وليس معنا”، فأجابه السيد بحدة “أريد إجابة واضحة وصريحة”، فقال صفا بأننا كنا نلزّمه تركيب كاميرات مراقبة ولكن منذ فترة لم نعد نعرف عنه شيئاً.
ثم طلب نصرالله، حسب الحسن، من وفيق صفا إجراء التحريات القصوى لاستجلاء الأمر “على أن يخبرني لاحقا بالنتيجة. ومر الأسبوع تلو الأسبوع، والشهر تلو الشهر ولم أسمع من وفيق صفا، الى أن حصل اتصال بيني وبينه خلال حرب تموز، فسألته عن الموضوع.. فردّ علي “وقتك هلأ؟!” وأقفل الخط في وجهي وانقطع الاتصال مع حزب الله”.
ويضيف وسام الحسن في استنتاج ذي مغزى كبير، “وبعد ذلك اغتيل وسام عيد من دون ترك أي أثر، فقد تم استخدام التخابر بأجهزة اللاسكي في تنفيذ الاغتيال”.
– لماذا إذن تم اعتقال الضباط الأربعة؟ وجميل السيد معه حق اذا بكل ما يقوله بحقك وحق الحريري (بعد المؤتمر الذي عقده السيد وهدد به سعد الحريري).
يقول الحسن “ذنبه يتحمله “حزب الله” الذي سكت عن اعتقاله كل تلك الفترة لأنه يريد تحويل الأنظار عنه واستخدامه كبش محرقة”، ويضيف الحسن تعبيرا عن حسن نيته، بأنه هو الذي نقل الضباط الأربعة من المبنى القذر الذي كانوا يعتقلون فيه، وتعهد بدفع 375 الف دولار من جيبه الخاص (في حال لم تؤمن الدولة اللبنانية المبلغ) للمقاول الذي التزم تشييد المبنى الجديد في سجن رومية من أجل نقل الضباط الأربعة الى مبنى يليق بهم!
أما الطامة الكبرى (طبعا بعد “حقيقة ليكس”)، عندما يجزم وسام الحسن بأنه لا يعرف محمد زهير الصديق وبأنه لم يلتقه أبدا في حياته وبأنه لم يغادر لبنان أبدا في تلك الفترة، حتى أنه زود الصحافة بصور عن جواز سفره تثبت بأنه لم يغادر لبنان، واستخرج سجله من الأمن العام الذي يثبت ذلك (وطبعاً الأمن العام يسيطر عليه “حزب الله”)!
وطبعاً، فان الشيخ سعد لا يملك طائرة خاصة يتنقل بها وفريقه الأمني والسياسي دون حسيب ورقيب، فلا أختام ولا من يختمون!
والأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هنا هي، كيف في منتصف العام 2007 كان سعد الحريري يتهم سوريا فقط لا غير باغتيال والده، حسب إفادته الموجهة تجاه آصف شوكت والنظام السوري، وكيف وسام الحسن يروي قصته مع السيد حسن نصر الله ووفيق صفا واتهام عناصر من “حزب الله” منذ أوائل عام 2006، وللإشارة فقط بأن الحسن بدأ رواية فصله الأخير هذا أوائل العام 2010، هذا من دون التطرق الى فبركة شهود الزور، على الأقل محمد زهير الصديق، الواضحة للعيان.
ألا يستطيع من يفبرك شاهد زور مع هذا الكم الهائل من التلفيق والكذب أن يزوّر ويحوّر الوقائع وصولا الى التلاعب بـ”داتا” الاتصالات أو التستر على من تلاعب بها؟ كيف يمكن تصديق من انكشف كذبه للعيان وأمام الملأ في أبشع عملية تزوير وتلفيق؟
كيف يمكننا الوثوق بمن يأخذ البلد الى فتنة والى شفير الهاوية تحت حجج واهية وخبريات تشبه قصة ليلى والذئب؟ فأي ثمن يطلبون لتسوية على محكمة دولية مسيسة تتهم فريقاً من اللبنانيين بجريمة لم يرتكبها، والأنكى عندما يكون أحد الأثمان تشريع الفرع الأمني الذي فبرك القصة من ألفها الى يائها، طبعا بالتعاون مع الجهات الدولية صاحبة الاختصاص.
Leave a Reply