العالم حقل ألغام. هذه حقيقة!
أو بمنطق الخرافات، العالم على قرن ثور، ولا أحد يعرف متى يخطر ببال ذلك الثور أن يقذف بالكرة الأرضية إلى القرن البعيد، ليستريح، أو ليقلق الآخرين، أو ليتذمر، أو ليطلق صفارة إنذار، أو حتى.. ليمزح!
والعالم قنبلة موقوتة، قد يفجرها “إرهابيون” أو رئيس أعظم دولة (في العراق وأفغانستان)، أو مخابراتيون (اغتيال الحريري) أو مضطهدون، أو حتى.. قليلو الحيلة، من أمثال التونسي محمد بوعزيزي.
كنا نظن أن الثورات تحدث في كتب التاريخ، أو في أسئلة الامتحانات المدرسية، فقط. وكنا نظن أنه لا يمكن تنظيم أية ثورة في العالم، أو الإعداد لها. فكل ثورة منظمة سيكون مآلها الفشل الذريع تماماً كما حصل في ثورة “نزل السرور”، مسرحية زياد الرحباني، التي التقطت ذلك الحس الثورجي العربي، الذي يحلم بالثورة من دون أن يكون مستعداً لدفع أي ثمن مهما بدا بخساً..
وكنا نظن أن الثورات تحتاج إلى تلك العبقريات الاستثنائية والشخصيات العابرة للتاريخ، ذوات الكايرزمات الساحرة التي لا يمكن مقاومتها. وتبين لاحقاً أن الثورات ليست بحاجة إلى أكثر من.. عود ثقاب، لأن العالم هشيم يابس، يتنسم رائحة النار..
هكذا هي شوارع العواصم العربية من القاهرة إلى الرباط، ومن صنعاء إلى بيروت، مجرد هشيم يابس.. تتمنى رائحة النار، لتشب الحرائق، وترتفع الألسنة. ألسنة النار بالطبع، لا ألسنة المتقولين والمحللين والإعلاميين والطبالين والباعة.. الخ.
لدى التاريخ حس لاذع. فالتاريخ ذكي ومفاجئ. حكمته الأثيرة: اضرب الخاصرة عندما يتوقع الخصم أنك ستضربه في الصدر. فمن كان يتوقع أن تأتي أول “ثورة” في القرن الواحد والعشرين من تونس، أكثر البلدان العربية المحصنة أمنياً بقبضة حديدية. ومن كان يتوقع أن يستجيب الناس لشخص غير معروف، لعله لم يكن يحلم في حياته أن يكون “قائدا” أو ملهماً. محمد بوعزيزي، وقد قضى الآن، لا يعرف أنه.. سبارتكوس العرب!
سبارتكوس، أو المقاتل الأسطوري الذي ألهم عبيد روما وقاد ثورتهم (عام 74 قبل الميلاد) ضد أعظم امبراطوريات العالم القديم، ونجح في تحطيم قيود الاضطهاد والعبودية التي كانت تثقل كاهل الآلاف. هؤلاء العبيد بقيادة سبارتكوس، لم يقاتلوا لأسباب أيديولوجية، كانوا يريدون تحصيل القدر الأدنى من الحقوق. كانوا يريدون كفاف يومهم من الرزق، وصون كرامتهم الإنسانية إلى أبعد مدى.
لم يكن لدى سبارتكوس، أية خطة، لمقاتلة السلطة أو مقارعتها، مع أنه كان حانقاً عليها، لأنها الوحيدة التي كان بمقدروها أن تلجم المستغلين من التجار والنبلاء وأبناء الطبقات العليا. وسبارتكوس لم يكن سياسياً. كان جنديا ومصارعا وعبدا وصاحب مؤهلات محدودة، لكن روحه كانت عامرة برفض الخضوع والخنوع والذل. شخص يمتلك الضرورات الأخلاقية التي تنطوي عليها كل نفس بشرية، لذلك لم يكن مفاجئاً أن ينضم تحت لوائه نصف أرقاء روما وعبيدها، وأن يأتمروا بأمره!
يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن الصحيح.. أن بعض الناس (وهم قليلون بالمناسبة) لديهم القدرة على “تصويب” التاريخ، أو وضعه على السكة الصحيحة. السكة العادلة.. التي ستوصل الشعوب إلى مبتغاها الذي هو في المقلب الأخير.. تحقيق العدالة!
بوعزيزي.. يقود مئات الملايين من العرب بدون أن يعرفهم، ولكنه أسوة بأي قائد، أصبح معروفاً من قبلهم جميعاً. لقد أشعل بوعزيزي عود ثقاب سيظل مضيئاً ونبراساً. وحتى لو انطفئ.. سيأتي أحد ما ويعيد التذكير به، وبـ سبارتكوس، مرة أخرى!
Leave a Reply