مع ذهاب هذا العدد إلى المطبعة يكون المصريون قد خرجوا إلى الشارع في “يوم كبير” آخر من حملة مطالبتهم برحيل الرئيس مبارك ووقف خطط توريث الحكم لابنه. فيوم الجمعة ينتظر أن يشهد تظاهرات حاشدة بعد خروج المصريين من المساجد. لا يقصد هنا بأن أئمة المساجد سيدعون المصلين إلى التظاهر بالضرورة.
فحركة الجماهير المصرية تبدو حتى الآن غير موجهة إسلامويا ولا قوموياً. وما تتناقله الأنباء يفيد بأن المصريين سائرون على خطى إخوانهم التونسيين في هندسة احتجاجهم الكترونيا وبوسائل الاتصال المتاحة لهم وتنسيق وتصعيد غضبهم على محاولات نظام مبارك تأبيد حكمه عبر نقل السلطة الى “نائب” الأمين العام للحزب الوطني الحاكم.. جمال حسني مبارك.
ولأن “ثورة الياسمين” التونسية قد صعقت بسرعتها وحركيتها الكثير من الأنظمة وأدخلت الخوف إلى قلوب العديد من الحكام الذين باتوا يخشون مصير زين العابدين بن علي (القذافي مثلا) فإننا أمام محاولات جماهيرية قد تسيل تحت أرجل أصحابها دماء كثيرة. لكن قتل الثورات بات مهمة مستحيلة أو شبه مستحيلة في عصر تزود كل مواطن تقريبا بآلة اتصال وتواصل مع أقرانه في مناطق نائية من البلاد وفي الخارج على حد سواء.
هكذا لم تعد الثورات أو الانتفاضات بحاجة الى أحزاب سياسية لقيادتها في العالم العربي، بل إلى “خبراء انترنت” هم، لسوء حظ الحكام، من جيل الشباب بمعظمهم، وغالبيتهم من الجامعيين العاطلين عن العمل بسبب غياب التنمية الاقتصادية وسياسة الاستئثار بالثروات والمقدرات التي تتبعها كل عائلة حاكمة في النظم “الجمهورية” التي تحولت منذ سنوات طويلة الى ممالك عائلية، رأينا نموذجا عن توحشها في سلب لقمة عيش الشعوب وفرص العمل من أمام الشباب، بعدما فضحت ثورة التونسيين ممارسات عائلة بن علي وعائلة زوجته وأصهاره، ومدى سيطرتهم على المفاصل الأساسية في اقتصاد البلاد وحصر الثروة في أيدي قلة قليلة من المحظيين والمحميين وأصحاب النفوذ.
لم يخرج الرئيس مبارك حتى الآن لمخاطبة “الشعب” لأنه لا يرى ربما فائدة في التحدث مباشرة الى المحتجين الذين ملأوا شوارع المدن المصرية بمئات الألوف في الأيام القليلة المنصرمة، لكي لا يسبغ “شرعية ما” على حركة الاحتجاج. ولأن مخاطبة الجماهير في الشارع هي غير مخاطبتهم وهم قابعون في بيوتهم تحت مراقبة أعين الأمن المركزي. تبدو مخاطبة المحتجين أو الثائرين أو المنتفضين مغامرة في غاية الخطورة في ذهن الحاكم المستبد الذي لم يعوّد شعبه على التوجه إليه بأي خطاب مباشر.
فهذا النمط من الحكام اعتاد على توجيه الجماهير بوسائل “اقناعه” الأمنية والسياسية نحو الهدوء والاستكانة، والصلاة ركعات إضافية لأن الله منّ عليها بوجودهم على رأس السلطة وإلا فإن حياتهم كانت لتكون جحيماً.
والحال أن هؤلاء الحكام لم يعودوا يمتلكون القدرة على الإدراك بأن الجحيم بعيون الجماهير كان ولايزال هو تمسكهم بالسلطة وخنق الحريات وقتل الفرص وتجويع الناس.
يستفاد من التطورات المثيرة التي أنجبت التغيير التاريخي غير المسبوق في تونس، أن الشعوب العربية التي كانت تتطلع الى تغيير ولو طفيف في واقعها المزري عبر العقود المنصرمة، قد كفرت بكل برامج التغيير وبالمعارضات التي طرحت مالا يحصى منها وانتهت الى الوقوع إما في أحضان السلطة أو في سجونها، وباتت الجماهير تؤمن بالتكنولوجيا وحدها سبيلا في سعيها الى التخلص من الظلم والقهر والتجويع وقد أثبتت مواقع “تويتر” و”فيسبوك” ورسائل الـ”أس أم أس” نجاعة فائقة في عمليات التواصل بين الناس، وبعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية التي فقدت السيطرة على تفكير الناس وإحصاء الأنفاس للإبقاء على أنظمة التسلط والاستبداد فوق رؤوسهم.
ولا تقتصر مفاعيل ثورة الاتصالات على هندسة التحركات الميدانية وتنسيق خطواتها، بل إنها شرعت تنال من هيبة الحاكم المستبد وتعمل على تبديد تلك الهالة من القداسة التي أحاط نفسه بها، من خلال تسخيف قدراته القيادية، والسخرية من أساليبه القمعية بنكات سوداء لكن لها مفعول السحر في تشكيل صورة كاريكاتورية عن الحاكم وأساليب إدارته للأزمات.
إحدى هذه النكات الواردة من مصر تقول إن الرئيس حسني مبارك أصدر أوامره الى شركة مصر للطيران لتكون على أهبة الاستعداد. إذا قرر الشعب المصري المغادرة الى خارج البلاد!
والواضح أن زمن قيام مخابرات الأنظمة بـ”لملمة” النكات من الشارع قد ولى الى غير رجعة، في زمن صارت الجماهير الغاضبة تسبق نكاتها الى الظهور وحل التصريح محل التلميح، فنسمع الهتافات المدوية تعلو في سماء القاهرة ومنها “يا جمال قول لأبوك، الشعب المصري بيكرهوك”.
ومثلما كسر الشعب التونسي حاجز الخوف وتسلح بالياسمين والصرخة المدوية من أقصى تونس الى أقصاها وأسقط الدكتاتور بن علي عن كرسي السلطة، نحن أمام صحوة جماهيرية عربية تستلهم من الثورة التونسية إرادة التغيير الذي صار أكثر من ممكن، خصوصا وأن حاكم تونس السابق بالكاد وجد من يؤويه، مؤقتا، وتنكر له أقرب الحلفاء والرعاة الدوليون، وها هو القضاء التونسي يطالب باسترداده وأفراد عائلته للمثول أمام عدالة الشعب التونسي.
فهل يرعوي باقي الحكام المستبدين، ويتنحون قبل أن تسقطهم صرخات الجماهير التي زوروا ولاءها وخانوا أمانيها بالحرية ولقمة العيش الكريمة، غير المغمسة بالذل والشقاء؟
بالأمس كانت ثورة الياسمين في تونس، واليوم تتزاحم إرهاصات التغيير في مصر واليمن.
لكن المطلوب من النخب الثقافية العربية أن تخرج عن صمتها وأن تواكب أماني وتطلعات شعوبها لأن مرحلة التسكع الفكري على أبواب القصور الرئاسية وتمجيد الحاكم آن لها أن تنتهي.
وإذا كان صحيحا أن “ثورة الياسمين” التونسية و”ثورة الفل” المصرية و”الاقحوان اليمنية”، إذا شئتم، تقوم على كاهل جيل الشباب الذي رفض انتظار “غودوهات” المعارضات العربية الوهمية، إلا أن مواكبة هذه النهضة الثورية الحقيقية من الكتاب والفنانين والشعراء والأدباء يجب ألا تتأخر، وإلا خسرت هذه النخب ما تبقى من احترام الجماهير لها وسقطت مع الحكام المستبدين الذين باتوا يعدون أيامهم وساعاتهم على كراسي السلطة.
Leave a Reply