بيروت –
طوى لبنان عقدين من عصر الحريرية السياسية بنجاح الأكثرية الجديدة–القديمة في ترجيح كفة رجل الأعمال الطرابلسي المقرب من الرئيس السوري وصديق السعودية وفرنسا وقطر الرئيس نجيب ميقاتي الذي شكّل ترشيحه “ضربة معلم” تُسجّل للمعارضة السابقة، خاصة وأنه محل اجماع اقليمي ودولي، بل حتى يمكن القول أنه الخيار الأنسب لدى القيادة السعودية في هذه المرحلة، بعد أن خلق الحريري مزيدا من الخصوم داخل الأسرة المالكة في الرياض (بعد تسريب حديثه امام جلسة التحقيق الدولية في اغتيال والده حول مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، الأمير محمد بن نايف ووصفه الأخير بـ”السفّاح”)، وبسبب التحول الحاصل في الأولويات السعودية، عقب احداث تونس والتراجع الأميركي في المنطقة.
ومع أنّ ردة فعل تيار المستقبل ورئيسه ازاء استحقاق التكليف تخطت حدود اللعبة السياسية، وأوحت –للوهلة الأولى– بوجود تغطية عربية لتحركه في الشارع، غير أن هذه الفرضية سُرعان ما تبددت بعد أن تبينّ ضعف التجاوب الشعبي لقوى “١٤ آذار” مع دعوات قياديها للاعتصام، في حين تكفلّ مناصرو “يوم الغضب” أنفسهم بتسديد ضربة قاصمة الى تحركهم بسبب ما ارتكبوه من أعمال شغب وفوضى لم يستطع حتى سامي الجميل، وجزء كبير من مسيحيي الموالاة السابقة، تقبلّها.
وعززّ هذا التوجه قرار قوى الثامن من آذار بعدم الانجرار الى الشارع، نتيجة معرفة مسبقة بميل ميزان القوى الإقليمي لغير كفّة الحريري، قبل أن يتسرب في الإعلام أن ميقاتي حصل على إشارات سعودية مؤيّدة لحلوله وسطاً في الأزمة الحالية قبل فترة؛ وهو بالفعل ما حاول الرئيس المكلف عكسه من خلال مواقفه المتتالية عشية التكليف وبعده.
على أن حراك القطريين والأتراك (بالتنسيق مع فرنسا وإيران وسوريا والسعودية)، بعيد تكليف ميقاتي، يؤشر الى حد بعيد الى الظروف التي جاءت به رئيسا للحكومة، فضلا عن أن الحملة الإعلامية والسياسية التي قادها تيار المستقبل بوجهه تُفضي الى استشراف بنود جدول أعمال الحكومة الجديدة. من هنا، يمكن الإشارة الى مجموعة محاور ستكون محط معالجة بمجرد الإتفاق على التشكيلة الحكومية:
– السير بالإقتراح التركي بتشكيل لجنة تحقيق لبنانية في قضية الشهود الزور.
– البت بمصير تعاون لبنان مع المحكمة.
– العلاقة اللبنانية – السورية.
مع الإشارة الى أن “حزب الله” لا يجد نفسه مضطرا لطلب تأمين بند دعم المقاومة في البيان الوزاري، نتيجة موقف الرئيس ميقاتي المعروف في هذا المجال، وهو ما أعلنه ضمنا السيد حسن نصرالله في كلمته في ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام من مدينة بعلبك.
غير أن الاستحقاقات المقبلة جميعا تخضع، من حيث السرعة في المعالجة، الى شكل الحكومة وأسماء الوزراء، علما أنه بات من المرجّح تشكيل حكومة تكنوقراط ملّونة بسياسيين، بعد توجه تيار المستقبل نحو مقاطعة المشاركة فيها.
ولئن كان الخوض في الأسماء تفصيلا، قياسا الى أن استحقاق الإعلان عن القرار الظني قد يكون مرة اخرى فتيل ازمة وطنية شاملة وأشدّ خطورة، فإنّ المحسوم حتى الساعة استبعاد وزراء كانوا في السنوات الأخيرة من الثوابت، كوزير الدفاع الياس المر، واختيار شخصيات قادرة على التكيف مع ظروف المرحلة عملا بمقولة “حكومة إنقاذ وطني” التي أطلقها الرئيس نبيه بري أخيرا.
وبالفعل بدأ ميقاتي جولاته على رؤساء الحكومات السابقين، وسط أجواء ايجابية، لم يعكرّها سوى برودة استقبال الحريري له في جلسة اضطر فيها الأخير الى تحمّل ضيفه لثلاث دقائق متتالية من دون ان ينظر في وجهه، في مشهد اختصرته كلمات الشيخ سعد لصحيفة “نيويورك تايمز” بوصفه تكليف ميقاتي بـ”الانقلاب السياسي”، معربا عن “شعور عميق بالخيانة” من حلفاء سابقين، علما أن الرئيس المكلف حاول جهده مدّ يد التعاون مع الحريري من خلال ايفاده شقيقه طه ميقاتي الى قريطم قبيل الاستشارات النيابية، من دون أن يلقى أي ترحيب.
في هذا الأثناء، عاود مساعد وزير الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان مساعيه لـ”إنقاذ” ما يمكن انقاذه على جبهة “١٤ آذار”، من خلال جملة لقاءات يعقدها في العاصمة الفرنسية شملت شخصيات لبنانية. وواكبته السفيرة الأميركية في بيروت بجملة خطوات مماثلة، خاصة في محاولة لمعالجة ما خلّفته صورة الدواليب المحروقة على امتداد مناطق نفوذ تيار المستقبل من أصداء سلبية عالميا، الى حد استفزاز اسماء لافتة في الصحافة السعودية.
غير أن تحرك واشنطن بقي دون سقف القدرة على اجراء تغيير جذري، ذلك أن الولايات المتحدة تمارس حاليا سياسة “الحد من الخسائر” في المنطقة عموما ولبنان خصوصا. ويمكن تأكيد أن أقصى مطالبها على الساحة اللبنانية في المرحلة المقبلة (فضلا عن ملف المحكمة) لن يتخطى محاولة الإبقاء على بعض الشخصيات الأمنية والقضائية في مناصبها، بعد أن فقدت أقوى أوراقها، وصار أبرز حلفائها السابقين وليد جنبلاط في الضفة المقابلة تماما، مع اعلانه إنتهاء وجود كتلة “اللقاء الديمقراطي” والإعلان عن ولادة “جبهة النضال الوطني” التي تضم من تبقى من أعضاء كتلته؛ وهو الاسم نفسه الذي أعطاه والده كمال جنبلاط لإئتلافه في بداية الحرب الأهلية في العام 1976.
يوم الغضب
ما إن خرجت نتائج الاستشارات النيابية بإعلان فوز الرئيس نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة، حتى نزل عشرات من أنصار تيار المستقبل الى الشارع في خطوة بدت مقررة مسبقا، وارادها المنظمون رسالة تخطت مرات عديدة حدود استدراج الفتنة المذهبية ووصلت ذروتها في مدينة طرابلس، حيث أطلق نواب المستقبل حملة تعبوية في بيروت والجنوب، من دون أن تنجح هذه الدعوات في أن تستنهض اكثر من مئتي فرد وسط العاصمة.
ولكن الحق يُقال أن “الغاضبين” على قلّة عددهم نجحوا في احراق عدد كبير من الدواليب وحاويات القمامة وقطع الطرق ومواجهة عناصر الجيش اللبناني، الذي نجح في استيعاب أعمال المتظاهرين، بل وتنفيذ عمليات دهم طالت في بعض الأحيان مسؤولين أمنيين في فريق الحريري، فضلا عن تأمين الحماية للعديد من الرموز السنية ومن بينها ميقاتي نفسه الذي يبعد منزله في منطقة فردان في بيروت مئات الامتار عن مقر الرئاسة الثانية.
واستدعت أعمال الشغب التي استمرت ليومين والحرائق التي لم توفر معدات وسائل الإعلام، مواقف منددة حتى من قبل حلفاء الحريري، الذي انتظر بعض الوقت قبل أن يقرر سحب ورقة الشارع، بعد أن تبينّ عدم تجاوب الناس مع هذا الخيار، والارتدادات السلبية لهذه الخطوة، فهدأت “فورة الغضب العفوي”، الذي أسفر عن تدمير وحرق سيارة بث تابعة لقناة “الجزيرة” ومحاصرة صحفيين في مبنى في بيروت والتعرض للعديد من الطواقم الإعلامية، وإطلاق أعيرة نارية بشكل عشوائي وقطع طرقات رئيسية بين بيروت والناعمة وفي طرابلس وضواحيها.
وانحصرت حدود الغضب الحريري في تجمع متواضع قرب ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسط بيروت، في حين ترددت أنباء عن نية أنصار الرئيس المكلف في احياء “يوم بهجة” في طرابلس بمشاركة حلفائه الرئيس عمر كرامي والوزير محمد الصفدي، وإبراز الصورة الحقيقية للمدينة.
Leave a Reply