لا يعيش المثقف أو الأديب في وجداننا العربي إلا بعد مماته. ويحدث حينها أن تتبارى الأقلام. فتارة ترى الحروف تأخذ أشكالاً ملفتة، تراها تتلوى على الورقة البيضاء من عظيم المصاب، تبكي هنا وتتلوعّ هناك؛ تذكر مناقب الفقيد؛ وطوراً تراها تنحو منحى المجون، فتأخذ بالرقص فوق جثث الموتى كأنها تتشفى من تلك الأرواح الخارجة للتو من قذارة هذه الدنيا.
وفي كلتا الحالتين تتكون لهذا المثقف (الأديب) ذاكرة في وجداننا. ويحدث أن يأتينا وعلى غفلة من الزمن عظماء يصنعون تاريخهم بأيديهم ويتركون وراءهم أوراقاً حافلة تخجل أمامها الأقلام السوداء، فتظل أوراقهم ناصعة بطهرها وتترك الخانعين يتجرعون مرارة ضعفهم وإخفاقاتهم، أو حتى الرغبة بالإنتماء إلى عالم الأحياء. أولئك هم من رضوا عن أنفسهم ورضت عنهم، هم من سخّروا ثقافتهم في سبيل الإنسان، هم أصحاب النفوس الكريمة.
ولكن يأتينا اليوم من يصر على أن يلوث تاريخه بدماء أبنائه، من يقرر الإنتحار على مذبح السلطة لا على مذبح الوطن، من يفضل لقب سعادة الوزير على لقب فخامة المواطن؛ وأين؟ في الأرض المحروسة!
ففي زحمة الدم، والقاهرة تغرق بدماء أبنائها الطاهرة؛ قرر سفاحها أن يزيد من غطرسته (وقد فات الأوان) فيبعث بزبانيته لقتل من يجب أن يحافظ عليه من أبناء وطنه فيقتلنا جابر عصفور مرتين:
مرة حين سمح لأقلامنا بالترحم عليه وهو حيّ، حين أمست حروفنا رماحاً تشق طريقها إلى القلب رويداً رويداً؛ ومرة أخرى حين سمح لنا “الناقد” بنقده.
جابر عصفور، صاحب مقولة “إن هذا العصر هو عصر الرواية”؛ لقد أخطأت في قراءة هذه الرواية ولم يسعفك حسكّ النقدي، هذه المرة.
وليس هذا بمُستغرب، فهذه الرواية من نوع آخر.. رواية حبرها الدم، وعنوانها الكرامة والثورة على نظم الإستبداد.. وهي التي كشفت لنا الكتّاب من الكتبة.
هي الرواية (الثورة) التي تفوق الخيال وكل إنجازات الرواية المصرية، ستعود (وبكل أسف) لتنتقدك أنت،
فحبذا لو كانت حروفنا اليوم ملأى بالدموع لفقدانك؛ بدل أن تمتلئ دماً لخسارتنا أبناء جلدتنا على يد الحكم الغاشم والحاكم السفاح وزبانيته.
جابر عصفور وداعاً..
إنما؛ كن على ثقة أنك حفظت لنفسك “المقام العالي” في نفوسنا ووجداننا؛ وحتى قبل مماتك؛ وهذه ستكون الرواية المصرية الوحيدة التي ستعجز عن نقدها.
Leave a Reply