بدأ العام الجديد دموياً لكنه سيدخل التاريخ من بابه الواسع المجيد بفضل الله سبحانه وتعالى والشعب المصري العظيم الذي هب هبة رجلٍ واحد ضد نيرون مبارك الطاغية سليل كافور. إننا نشهد اليوم التاريخ يصنع أمام أعيننا ونعيش أياماً مليئةً بالإثارة، مع الشعور بأسى ولوعة وحسرة على أرواح المدنيين العرب الثائرين الذين يستشهدون في الساحات بينما أبناء وعوائل جلاوزتهم وجلاديهم قد فروا في ليلةٍ مظلمةٍ كأنظمتهم المأفونة البائدة يحملون الثروات المكدسة المسروقة من دماء شعوبهم في حقائب غير محدودة إلى خارج البلاد. فمهما حكم طغاة العربان من عقود ظلماً وطغياناً وفساداً، يظلوا يشعرون بغربةٍ موحشةٍ وإستعدادٍ دائمٍ للهرب، لأنهم سرقوا الحكم في لحظةٍ تاريخيةٍ عمياء على مرأى من الناس جميعاً وشرعوا دكتاتورياتهم التي بقيت مؤقتة مهما طال ليلها الحالك الدامس كزنازين وأقبية مخابراتهم النتنة. زوجة بن علي استولت على ذهب تونس بعد أن سرق بعلها مستقبل بلده قبل أن يرحلا معاً إلى المنفى السعودي، أما في “شبه الكيان” فقد شفط فؤاد السنيورة ١١ مليار دولار من دون رحيل أو مساءلة، بل أن صدره يضيق لدى سؤاله عنها وأكثر من ذلك نراه يملي شروطاً على الرئيس المكلف تتمحور جلها حول بقاء المحكمة الإسرائيلية التي باعها معلمه في الوثيقة التي كشفها وليد جنبلاط!
سقطت الأصنام في لبنان الأخضر بإنهيار سلطة “إنقلاب ١٤ آذار” وشين العابدين في تونس الأبية وترنح فرعون في مصر البهية. اننا ندين لـ”ثورة الياسمين” في تونس الفيحاء وشهيدها الأول محمد البوعزيزي، الذي نحتسبه عند الله بالرغم من أنف مفتي البلاط السعودي، الذي أشعل فتيل الثورة وألهب مشاعر التوانسة الذين هبوا مرة واحدة فأخمدوا شعلة النظام المستبد ولفحوا بريح الثورة أرض جمال عبدالناصر الزعيم الخالد الذي كان يتقلقل في لحده من شدة عمالة مغتصبي سلطته من بعده. لكننا قبل ذلك وبعد، ندين للمقاومة في لبنان في إستعادة الثقة والكرامة للشعوب العربية رغم أنف حكامها، من خلال انتصارها على أعتى وأكثر القوى شراً وإرهاباً، إسرائيل التي كان جيشها قد حطم آمال وتطلعات الجماهير العربية، أو هكذا أرادت الأنظمة المتآمرة الإيحاء للناس لكي تخدرهم عن مطالبهم المشروعة في العيش بحرية وكرامة واكتفاء بحجة التضحية في الصراع مع إسرائيل! لقد قال لي أحد الأقارب أن كل دولة تآمرت على المقاومة سوف تدفع الثمن وسيأتيها الغضب الشعبي المزلزل، وها هي النبؤة تتحقق فللمقاومة ربٌ يحميها!
لقد قزمت “ثورة النيل” أخبار لبنان ومشاكله رغم التلازم العضوي وتشابك سياسة البلدين. فبالأمس فقط صرح “أبو الغائط” مدافعاً عن “حقوق السنة” التي انتهكت بعد الإطاحة بسعد الحريري، حليف أنظمة الإعتدال، التي تتهاوى اليوم كالكرتون، محولاً “أم الدنيا” مصر إلى زاروب إعلامي مذهبي مناطقي فتنوي دوره مثل دور الجوزو أو كبارة أو فرقة “الدنيا هيك”. وبالأمس، إستقبل أللامبارك سمير جعجع في قصره في ١٣ حزيران مع أن الأخير من دون حيثية سياسية إلاحيثية السوابق الإجرامية. وربما كان الطاغية يفكر باليوم الذي سيستعين فيه بخبرة الميليشياوي العتيق بعد فشل “بلطجية” النظام من بقايا المخابرات والمرتزقة والمجرمين والجزارين في قمع وتشويه صورة “ثورة النيل”. لم تكون صدفة أن يذكر زعيم الحزب الناصري أموال مبارك وأموال سعد الحريري معاً حين كان يتحدث عن الفساد في مصر! وإن ننسى فلا ننسى، علاقة السنيورة الحميمة مع مبارك وبالتالي فإن سقوط النظام المصري سوف يشكل ضربة قاصمة لصغار “١٤ آذار” مثلها مثل مصيبة إسرائيل التي ستصاب بخسارة استراتجية عظمى. فإسرائيل لم تحب من العرب إلا ثلاثة: الساقط أنور السادات الذي رهن مصير مصر البطلة للغرب، وحسني مبارك من بعده لاستمراره على خط الشرذاته، وفؤاد السنيورة الذي مازال مصراً على عدم خسارة إسرائيل في صيف ٢٠٠٦. “ثورة النيل” سوف تعطل مفاعيل “المحكمة الإسرائيلية” بعد أن إهتز أكبر داعميها في مصر والأردن والسعودية ولم تعد “ورقة رابحة”. وبما أن “الطيور على اشكالها تقع” إستخدم مبارك نفس التهديد “أنا أو الفوضى” كما فعل حليفه في لبنان عندما خسر السلطة فأطلق “بلطجيته” من كبارة ومحمد سلام والعلوش وعقاب في يوم “الغضب” الذي إنقلب عليه.
لم يحدث أن وصلت الخساسة بنظام ليستخدم كلاباً بشرية تقتحم جموع المتظاهرين على ظهور البغال والجمال والخيول، تحت مسمع ومرأى من الجيش الذي لا يعرف سبب تقاعسه، لإحراق البلد واشعال حرب أهلية من أجل البقاء في السلطة ثم يقول أنه لم يكن يوماً “طالب سلطة” مع أنه في الحكم منذ ٣٦ عاماً عندما أصبح نائباً للرئيس في عام ١٩٧٥، فكيف لو كان طالب سلطة؟ لكن أثبت الشعب الصامد أنه أكثر جذريةً وتقدميةً من كل الأحزاب، وسقوط النظام يعني عودة الوعي المصري المساند للقضية العربية الأولى، ليس على طريقة وعي توفيق الحكيم المنقلب على الناصرية. يبقى أن المعيب هذا الصمت القاتل من قبل ما يسمى بالنخب المثقفة التي تبين أنها خارج التاريخ والعصر، والأحزاب “التقدمية” التي لم تحرك ساكناً وبدت وكأن ثورة الشارع العربي قد صدمتها وهي تتفرج على شاشات التلفزة، وشكراً ألف مرة لقناة “الجزيرة” البطلة الشجاعة على دورها الوطني. إن رياح الثورة ستهب إلى ما بعد بعد تونس، وأولها إلى نظام القذافي المجرم الذي لم يخف امتعاضة وهلعه مما يجري في الشارع العربي، وهو المدعي بأنه “أبو الثورات” لكنه، كسائر الطواغيت العرب، أضحى كجيفة ناطقة همها تقطيع الوقت من أجل توريث صبيته ليلعبوا بالملك.
إن شرقاً أوسطاً جديداً يتشكل، ليس على طريقة كونداليسا رايس القابلة غير القانونية التي أشبع فؤاد السنيورة وجنتيها قبلاً في عز المجازر الإسرائيلية، بل شرق أوسط “الكرامة والممانعة العربية”.
Leave a Reply